نص متحرك

♥†♥انا هو الراعي الصالح و الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف يو 10 : 11 ♥†♥ فيقيم الخراف عن يمينه و الجداء عن اليسار مت32:25 ♥†♥ فلما خرج يسوع راى جمعا كثيرا فتحنن عليهم اذ كانوا كخراف لا راعي لها فابتدا يعلمهم كثيرا مر 34:6 ♥†♥ و اما الذي يدخل من الباب فهو راعي الخراف يو 2:10 ♥†♥

الخميس، 30 أكتوبر 2025

الهدوء والصمت في حياتنا الروحية-٢٠

 الهدوء والصمت في حياتنا الروحية-٢٠


في عالم تسوده الضوضاء الخارجية والداخلية ومع الأف القنوات الفضائية وانشغالات الحياة يحتاج الإنسان اكثر من اي وقت مضى إلي الهدوء والصمت كركيزة أساسية في الحياة الروحية والإنسانية، إذ يمثلان مناخًا داخليًا يساعد النفس على النمو، والتأمل، والدخول في شركة أعمق مع الله والأصغاء إلي صوت الله وعمل الروح القدس داخل النفس ولفهم افكارنا وعواطفنا والتحكم فيها وضبط حواسنا والتوجية السليم لميولنا والتحكم في كلامنا وتصرفاتنا.

في الهدوء نستطيع ترتيب اولوياتنا. فالهدوء والصمت عطية إلهية وضرورة نفسية للقضاء علي توترات الحياة اليومية والحصول علي السلام الداخلي.

أولًا: الهدوء والصمت في الكتاب المقدس

+ الهدوء يمنح قوة وخلاص.. 

عندما تهدأ النفس فانها تتخلص من ضوضاء العالم ويرجع الإنسان لنفسه وإلي الله { لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: «بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ».} (إش ٣٠: ١٥). هكذا يقول الحكيم أن الهدوء يسكن خطايا عظيمة { إِنْ صَعِدَتْ عَلَيْكَ رُوحُ الْمُتَسَلِّطِ، فَلاَ تَتْرُكْ مَكَانَكَ، لأَنَّ الْهُدُوءَ يُسَكِّنُ خَطَايَا عَظِيمَةً.} (جا ١٠: ٤). فالصمت وحتى الكلام الهادئ الوديع يأتي بنتائج افضل { كَلِمَاتُ الْحُكَمَاءِ تُسْمَعُ فِي الْهُدُوءِ، أَكْثَرَ مِنْ صُرَاخِ الْمُتَسَلِّطِ بَيْنَ الْجُهَّالِ.} (جا ٩: ١٧). يقول المرنم: «كُنْ مُطْمَئِنًّا قُدَّامَ الرَّبِّ وَانْتَظِرْهُ» (مز 37: 7). الهدوء هنا ليس سلبية ولا هروب من مواجهة المشاكل بل هو ثقة في تدبير الله وأنتظار لخلاصه وعمله في حياتنا وللتفكير والصلاة في هدوء لكى نستلهم من الله الحكمة والعمل الصالح.

+ الصمت طريق معرفة الله..

 لقد أحب القديسين الصمت والهدوء لما راوه فيه من فوائد عظيمة. فالله يوصي شعبه قائلاً: { كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ}( مز١٠:٤٦). وقديما قال الرب لشعبه انهم يصمتون والرب يدافع عنهم {الرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُونَ.} (خر ١٤: ١٤). فالمعرفة الحقيقية لله تنمو في لحظات السكون بعيدًا عن الضجيج.

+ السيد المسيح نموذج للصمت الخلاصي

قدم لنا السيد المسيح في حياته نموذج للصمت والهدوء كما قيل عنه: { لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ». }(مت ١٢: ١٩-٢١). وأمام بيلاطس وهيرودس، التزم يسوع بالصمت (مت 27: 14). وكما تنبأ عنه اشعيا ايضا { كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ.} (إش ٥٣: ٦، ٧). وأظهر لنا الرب يسوع قوة الصمت والهدوء حتى في أشد المواقف صعوبة ليُظهر قوة الصمت الذي يغلب الانفعال، ويكشف أن الصمت في المواقف الحرجة قد يكون تعبيرًا عن القوة لا عن الضعف. 

ثانيًا: فكر آباء الكنيسة عن الصمت والهدوء

+ يقول القديس الأنبا أنطونيوس الكبير إن "الصمت يقود إلى النقاوة، والنقاوة تقود إلى المحبة، والمحبة تقود إلى الله". كما يدعو اولاده الروحيين الي " الهروب من النميمة وملازمة السكون، لان الصامت يكون مقامه عند الله في رتبة الملائكة" فالصمت وسيلة للتنقية الداخلية. أما القديس باسيليوس الكبير: يرى أن "كثرة الكلام لا تخلو من خطية، أمّا الصمت فيُثمر صلاة عميقة وتأملًا في أسرار الله". القديس أغسطينوس يقول أن الصمت ليس مجرد امتناع عن الكلام، بل هو توجيه الفكر والقلب نحو الله. وافرد القديس يوحنا السلمي درجة خاصة عن الصمت، ورأى أنه "أم الصلاة" و"حافظ الفكر". اما القديس ارسانيوس الحكيم فيقول " تكلمت كثيراً فندمت أما عن السكوت فلم اندم قط" ويقول القديس اشعياء المتوحد" أحبب السكوت اكثر من الكلام ، لان السكوت يجمع والكلام يبدد" ويقول القديس يوحنا التبايسى" بمداومة الهدوء تموت الافكار الطائشة والتذكارات الباطلة والآلام الباطلة، ويتقوى العقل بالسكون أكثر من اي أمر أخر وينجمع الي ذاته ويهدم الأفكار الشريرة". ويقول مار اسحاق السرياني " الصمت يُكسب الحكمة ويجمع ملكات الفكر إلي المعرفة".

ثالثًا: البعد النفسي للهدوء والصمت

علم النفس الحديث يوضح أن الصمت والهدوء لهما آثار مباشرة على الصحة النفسية: فهو يخفض التوتر والقلق: كما تؤكد دراسات أن فترات الصمت تساعد في تقليل مستوى الكورتيزول (هرمون التوتر) في الدم (Khalfa et al., 2003). ويودئ الي زيادة الوعي الذاتي فالصمت يفتح المجال للتأمل الذاتي، مما يعزز الوعي بالنفس ويساعد في اتخاذ قرارات أكثر حكمة (Brown & Ryan, 2003). كما يحفيز الصمت والهدوء الإبداع فتشير الابحاث إلى أن العزلة الهادئة تفتح المجال أمام المخ لتوليد أفكار جديدة (Long & Averill, 2003). والهدوء والصمت علاج نفسي فجلسات العلاج النفسي المعاصر (Mindfulness Therapy) تعتمد على ممارسات الصمت والتأمل كوسيلة لإعادة توازن الإنسان الداخلي.

رابعًا: التكامل بين الروحي والنفسي

+ الصمت في الفكر المسيحي ليس انسحاب سلبي من العالم، بل هو دخول في علاقة اعمق مع الله، مما يقوّي النفس ويهبها بصيرة روحية ونعمة وفي علم النفس الصمت يساعد على الشفاء من الاضطرابات النفسية، بينما الروحانية تضيف بعدًا وجوديًا أعمق فالصمت يقود إلى لقاء الله الذي يمنحنا السلام { لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ.  وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. }(في ٤: ٦، ٧).

خامسًا: تطبيقات عملية

+ تخصيص وقت يومي للصلاة الصامتة والتأمل في كلمة الله.

+ ممارسة "صلاة يسوع" (يا رب يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ) في هدوء داخلي.

+ تقليل الانشغال بالهواتف والأجهزة لتوفير لحظات صمت حقيقي.

+ ممارسة تقنيات الاسترخاء والتنفس العميق كجسر بين الصمت الروحي والنفسي. 

إن الهدوء والصمت عطيتان إلهيتان ووسيلتان للنمو الروحي والنفسي. فمن منظور الكتاب المقدس، هما دعوة إلى معرفة الله. ومن منظور الآباء، هما باب للنقاوة والصلاة. ومن منظور علم النفس، هما علاج للتوتر ومصدر للإبداع. وفي التكامل بين هذه الأبعاد، يصبح الصمت طريقًا للسلام الداخلي والشركة العميقة مع الله. أننا نصلي ونطلب من الله لنا وللجميع نعمة الهدوء وفضيلة الصمت للقاء مع النفس والله ولعلاقة اقوى وعشرة أعمق ومحبة تدوم ونربح انفسنا ومن حولنا لمعرفة الله والأتحاد به، أمين.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس 

* أنطونيوس الكبير، رسائله واقواله

* يوحنا السلمي، سلم الفضائل.

* أغسطينوس، الاعترافات.

* Basil the Great, Ascetical Works.

* Brown, K. W., & Ryan, R. M. (2003). The benefits of being present: Mindfulness and its role in psychological well-being. Journal of Personality and Social Psychology, 84(4), 822–848.

* Khalfa, S., Bella, S. D., Roy, M., Peretz, I., & Lupien, S. J. (2003). Effects of relaxing music on salivary cortisol level after psychological stress. Annals of the New York Academy of Sciences, 999(1), 374–376.

* Long, C. R., & Averill, J. R. (2003). Solitude: An exploration of benefits of being alone. Journal for the Theory of Social Behaviour, 33(1), 21–44.

الرجاء الحي وسط الضغوط -١٩

 الرجاء الحي وسط الضغوط -١٩

الرجاء المسيحي هو الثقة بتحقيق وعود الله حتى لو لم نفهم كيف او متي تتم؟. نؤمن ونثق أن الله يمنحنا الخلاص ويحيطنا بالرعاية ويقودنا في موكب نصرته مما يمدنا بالقوة والصبر والأمل لمواجهة ضغوط الحياة وتحدياتها ومن روح الله نستمد السلام والتعزية { وَلْيَمْلأْكُمْ إِلهُ الرَّجَاءِ كُلَّ سُرُورٍ وَسَلاَمٍ فِي الإِيمَانِ، لِتَزْدَادُوا فِي الرَّجَاءِ بِقُوَّةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ. }(رو ١٥: ١٣)

بالرجاء نعيش حياة تتسم بالمحبة والرحمة والفرح ويمتد بنا الرجاء للثقة في الخلاص الابدي { لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ الرَّجَاءِ رَاسِخًا، لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ.} (عب ١٠: ٢٣). حتى لو كنا نحن غير أمناء يبقي الله أمين { إِنْ كُنَّا غَيْرَ أُمَنَاءَ فَهُوَ يَبْقَى أَمِينًا، لَنْ يَقْدِرَ أَنْ يُنْكِرَ نَفْسَهُ. }(٢ تيم ٢: ١٣).


أولاً:  الرجاء الحي في الإنجيل

+ الرجاء المسيحي ليس مجرد تفاؤل بشري أو انتظار لأحداث أفضل، بل هو لنا رجاء حي متجذر في شخص المسيح القائم من الأموات: { مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات} (1بط 1: 3).

هذا الرجاء الحي مرتبط بالحياة الجديدة في المسيح،  فهو ليس فكرة ولا شعور بل قوة روحية عاملة. تعطي القدرة على مواجهة الضغوط والتجارب: { محزونين في كل شيء لكن غير متضايقين، متحيرين لكن غير يائسين}(2كو 4: 8). وهذا الرجاء يثمر فينا صبر وتعزية { لأَنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ فَكُتِبَ كُتِبَ لأَجْلِ تَعْلِيمِنَا، حَتَّى بِالصَّبْرِ وَالتَّعْزِيَةِ بِمَا فِي الْكُتُبِ يَكُونُ لَنَا رَجَاءٌ. }(رو ١٥: ٤).  فالرجاء في المسيح ليس هروباً من الواقع بل قوة تواجه الواقع وتحوّل الألم إلى فرصة للنمو الروحي.

+ الرجاء المسيحي يقوم علي الإيمان بالله القادر علي كل شئ والذي يصنع لنا الخير حسب رحمته الكثيرة ومحبته القوية. هذا الرجاء رايناه وعاشه رجال الله القديسين وكتبوا عنه لأجل منفعتنا. ورايناه في ايمان ابراهيم {  فَهُوَ عَلَى خِلاَفِ الرَّجَاءِ، آمَنَ عَلَى الرَّجَاءِ، لِكَيْ يَصِيرَ أَبًا لأُمَمٍ كَثِيرَةٍ، كَمَا قِيلَ: «هكَذَا يَكُونُ نَسْلُكَ». وَإِذْ لَمْ يَكُنْ ضَعِيفًا فِي الإِيمَانِ لَمْ يَعْتَبِرْ جَسَدَهُ - وَهُوَ قَدْ صَارَ مُمَاتًا، إِذْ كَانَ ابْنَ نَحْوِ مِئَةِ سَنَةٍ - وَلاَ مُمَاتِيَّةَ مُسْتَوْدَعِ سَارَةَ. وَلاَ بِعَدَمِ إِيمَانٍ ارْتَابَ فِي وَعْدِ اللهِ، بَلْ تَقَوَّى بِالإِيمَانِ مُعْطِيًا مَجْدًا ِللهِ. لِذلِكَ أَيْضاً: حُسِبَ لَهُ بِرًّا». وَلكِنْ لَمْ يُكْتَبْ مِنْ أَجْلِهِ وَحْدَهُ أَنَّهُ حُسِبَ لَهُ، بَلْ مِنْ أَجْلِنَا نَحْنُ أَيْضًا، الَّذِينَ سَيُحْسَبُ لَنَا، الَّذِينَ نُؤْمِنُ بِمَنْ أَقَامَ يَسُوعَ رَبَّنَا مِنَ الأَمْوَاتِ. الَّذِي أُسْلِمَ مِنْ أَجْلِ خَطَايَانَا وَأُقِيمَ لأَجْلِ تَبْرِيرِنَا. }(رو ٤: ١٨-٢٠، ٢٢-٢٥)

ثانياً: الرجاء في فكر الآباء ..

يقول القديس أغسطينوس: "الرجاء هو أن تثق أن الله لن يتركك في الضيق، حتى وإن بدا أنه صامت." اما القديس أثناسيوس الرسولي فيؤكد:  "المسيح بقيامته أعطى رجاءً حياً لا يقدر العالم أن يطفئه، لأن من قام من الموت قادر أن يقيمنا وسط أتعاب هذا الدهر." ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم أن الضيقات تصير سبب رجاء:  "كما تُختبر النار الذهب فيتطهر، هكذا تُختبر النفس في الضيق فتنمو في الرجاء." الرجاء الحي إذن عند الآباء هو من ثمار الصليب والقيامة، حيث تتحول تجارب الحياة إلى مدرسة للرجاء.

ثالثاً: الرجاء في منظور علم النفس..

يضع علم النفس الإيجابي (Positive Psychology) الرجاء كأحد أهم عناصر المرونة النفسية. فيرى عالم النفس C.R. Snyder أن الرجاء هو مزيج من: 

* الأهداف اي وجود معنى وغاية في حياتنا تدفعنا الي بذل الجهد والتصميم للوصول رغم المعوقات والتحديات التي هي بمثابة فرص متاحة للنمو وللنجاح. * الطريق لإيجاد وسائل وخطط للوصول للهدف. 

*  الإرادة القوية الدافعية للاستمرار ولا يوجد أقوى من الإيمان القوى بالله يبث فينا روح الرجاء . 

+ الدراسات الحديثة تؤكد أن الأشخاص ذوي الرجاء المرتفع يتميزون بصحة نفسية أفضل ومقاومة أعلى للضغوط والإحباط، كما أنهم يملكوا قدرة على تحويل الأزمات إلى فرص للتعلم. وهذا يتناغم مع الروحانية المسيحية التي تعلم أن الرجاء ليس فقط صفة نفسية بل نعمة روحية تغذي النفس وتدعم الصحة العقلية.

رابعاً: كيف نعيش الرجاء الحي وسط الضغوط؟

+ التأمل في قيامة المسيح.. إن قيامة السيد المسيح هي غلبة وانتصار حتى علي الموت وهي مصدر رجاءنا الأعظم، فالله يعمل لخيرنا ومن روح القيامة نتغلب علي اليأس بالرجاء وعلي الموت بالحياة ويتحول خوفنا الي سلام وفرح، والشك إلي إيمان ويقين وايمان بنوال الحياة الأبدية{ مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ،  أَنْتُمُ الَّذِينَ بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ.} (١ بط ١: ٣-٥).

+ الرجوع إلى كلمة الله:  كلمة الله قوية وفعالة وتنعش النفس وتجدد الرجاء { لأن كل ما سبق فكتب، كتب لأجل تعليمنا حتى بالصبر والتعزية بما في الكتب يكون لنا رجاء} (رو 15: 4).

+ الصلاة والتسليم: الصلاة باب للرجاء وصلة بمصدر القوة وبها ننتصر علي حيل إبليس وتنفتح النفس على عمل الروح القدس المعزي.

+ شركة الكنيسة: الرجاء الحي يحتاج للمشاركة الحية في أسرار الكنيسة وتقوية وتعزية من خبرة قديسى الكنيسة وخدامها الامناء. فالرجاء يقوى داخل الجسد الواحد، لا في العزلة.

+ التفكير الإيجابي المسيحي.. نحتاج لتدريب النفس على النظر إلى المستقبل بعين الإيمان والإيجابية وروح المبادرة والتفكير في الحلول المبتكرة والخلاقة.

+ الدعم النفسي والاستعانة بالعلم والمعرفة الحديثة لتقوية المرونة النفسية ليكون لنا مقدرة للتغلب علي الضغوط بروح الأمل والرجاء، أمين.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

خامساً: مراجع مقترحة

 * الكتاب المقدس

* القديس يوحنا الذهبي الفم: عظات على الرسالة إلى رومية.

* القديس أغسطينوس: مدينة الله.

* القديس أثناسيوس الرسولي: تجسد الكلمة.

 Snyder, C. R. (2002). Hope Theory   * Rainbows in the Mind. Psychological  Inquiry, 13(4), 249–275.

Seligman, M. E. P. (2011). Flourish: A * Visionary New Understanding of Happiness and Well-being. New York: Free Press.

الألم والنضج الروحي للنفس - ١٨

 الألم والنضج الروحي للنفس - ١٨

يُشكّل الألم إحدى أكثر الخبرات الوجودية التي تواجه الإنسان. ورغم ما يحمله الألم من معاناة، إلا أن الكتاب المقدس وفكر الآباء يكشفان عن عمق سرّي للألم، فقد يكون وسيلة للتطهير والتأديب والتنقية كما انه قد يكون شركة مع المسيح في الآمه وطريقًا للنضج الروحي والنفسي والمجد الأبدي.


أولاً: الألم في الكتاب المقدس

+ الألم كتأديب أبوي من الله لفائدة النفس وتهذيبها 

{ كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ.} (٢ تيم ٣: ١٦). كما يقول الرسول بولس: {  لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابْنٍ يَقْبَلُهُ». إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابْنٍ لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟  وَلكِنْ إِنْ كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ. ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدًّا لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟ لأَنَّ أُولئِكَ أَدَّبُونَا أَيَّامًا قَلِيلَةً حَسَبَ اسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هذَا فَلأَجْلِ الْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ. وَلكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أَخِيرًا فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرّ لِلسَّلاَمِ. }(عب ١٢: ٦-١١). الألم إذن ليس عقوبة انتقامية، بل تربية وتهذيب لصالح المؤمن وتقويمه وتنميته.

+ الألم شركة مع الآم المسيح ومجده

لقد تألم المسيح بالجسد من اجلنا وأحتمل الموت ليحمل عقاب خطايانا ويهبنا حياة ابدية فلنتسلح نحن ايضاً بهذه النية { فَإِذْ قَدْ تَأَلَّمَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا بِالْجَسَدِ، تَسَلَّحُوا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهذِهِ النِّيَّةِ. فَإِنَّ مَنْ تَأَلَّمَ فِي الْجَسَدِ، كُفَّ عَنِ الْخَطِيَّةِ،  لِكَيْ لاَ يَعِيشَ أَيْضًا الزَّمَانَ الْبَاقِيَ فِي الْجَسَدِ، لِشَهَوَاتِ النَّاسِ، بَلْ لإِرَادَةِ اللهِ. }(١ بط ٤: ١، ٢). كما يؤكد بولس الرسول: { لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته} (في 3: 10). هنا الألم مشاركة في صليب والآم المسيح، ووسيلة للدخول إلى سرّ قيامته فالألم طريق للمجد كما يكتب القديس بطرس: { لكي تكون تزكية إيمانكم وهي أثمن من الذهب الفاني الممتحن بالنار توجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح} (1 بط 1: 7). الألم يقوي المؤمن ويفتح الطريق نحو المجد الأبدي.

+ الألم علامة الرجاء

الرسول بولس يربط الضيق بالرجاء: { الَّذِي بِهِ أَيْضًا قَدْ صَارَ لَنَا الدُّخُولُ بِالإِيمَانِ، إِلَى هذِهِ النِّعْمَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا مُقِيمُونَ، وَنَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ اللهِ. وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا، وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً، وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا.} (رو ٥: ٢-٥)

ثانياً: الألم في فكر الآباء

+ يؤكد القديس أثناسيوس الرسولي (ت 373م) في كتابه تجسد الكلمة، أن المسيح بآلامه دخل في ضعف الإنسان ليحوّل الألم من لعنة إلى طريق خلاص. فالألم في المسيح صار اتحادًا بالحياة الجديدة.

+ اما القديس باسيليوس الكبير (ت 379م) في رسائله فشبه الألم بالنار التي تنقي المؤمن "كما تُصفّى المعادن في الأتون، هكذا تتنقّى النفس بالآلام وتستعد لمجد السماء".

+ ويرى القديس يوحنا الذهبي الفم (ت 407م)

في عظاته على رسالة القديس بولس الي اهل رومية أن الشدائد ليست علامة رفض من الله بل دليل على محبته، إذ "من يحتمل الضيق بصبر يلبس إكليلًا سماويًا".

+ والقديس مقاريوس الكبير (ت 390م)

في عظاته  الروحية، يوضح أن الألم يكشف ضعف الإنسان ويقوده إلى الاعتماد على عمل الروح القدس، فيصير القلب مستعدًا لسكناه.

+ اما القديس إيريناوس أسقف ليون (ت 202م)

في كتابه ضد الهرطقات فيرى أن الألم جزء من تربية الله لأولاده: "كما يُربى الأب ابنه، هكذا يسمح الله بالآلام ليقود الإنسان إلى الكمال". إن النضج الروحي يتحقق في كيفية مواجهة الألم، لا في تجنبه. فالألم يقود إلى التشَبه والاقتداء بالمسيح، الذي أكمل رسالته عبر الصليب (عب 2: 10). والنضح الروحي للمؤمن يحوّل الألم إلى شهادة رجاء، كما يعلن بولس: { حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع لكي تُظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا}(2 كو 4: 10). فالألم تجربة إنسانية مشتركة لا يمكن للإنسان أن يتجنبها، سواء كان جسدياً أو نفسياً أو روحياً. غير أنّ الألم ليس مجرد معاناة، بل يمكن أن يكون طريقاً للنمو الداخلي للنفس.

ثالثاً: الألم والنضج في علم النفس

في علم النفس الحديث، يُنظر إلى الألم النفسي كعامل أساسي في تكوين الشخصية ونموها: فيرى فيكتور فرانكل، مؤسس العلاج بالمعنى (Logotherapy)، أن الإنسان يستطيع أن يجد معنى عميقاً حتى في الألم، وهذا المعنى هو ما يقوده للنمو والنضج.

ويؤكد كارل يونغ أن الألم والظلال الداخلية من أهم محفزات نمو النفس، إذ يدفع الإنسان إلى مواجهة ذاته بصدق.

أما إريك إريكسون في نظريته عن المراحل النفسية-الاجتماعية، فيرى أن تجاوز الأزمات التي غالباً ما ترتبط بالألم يقود لتكوين قوى داخلية مثل الإرادة والحكمة. الألم هنا ليس مجرد معاناة نفسية، بل هو خبرة بنّاءة تعيد تشكيل الهوية، وتُنمّي المرونة النفسية.

رابعاً: التكامل بين البُعد الروحي والنفسي

يجتمع المنظور الروحي والنفسي على أن الألم يمكن أن يكون وسيلة:

* لتنمية الصبر والاحتمال.

* لتعميق معنى الحياة وفهم الذات.

* لتكوين شخصية أكثر نضجاً وحكمة.

* لتعزيز العلاقات الإنسانية عبر التعاطف مع الآخرين.

فالنضج النفسي لا يتحقق بالراحة المطلقة، بل عبر اجتياز الألم بوعي وإيمان ومعنى. إن علم النفس الحديث يعتبر الألم محفزاً للنمو النفسي. وهكذا، يصبح الألم سرّاً من أسرار النضج الإنساني، حين يُعاش بإيمان ومعنى 

+ إن الالم في ضوء الكتاب المقدس والآباء، ليس مجرد معاناة، بل مدرسة إلهية لتطهير النفس وتهيئتها لمجد الأبدية. إنه طريق النضج الروحي الذي يجعل المؤمن أكثر شبهًا بمسيح الصليب والقيامة الذي شابهنا في كل شئ لكي يكون رحيماً بنا وفيما هو تألم مجرباً يحس بنا ويعيننا في تجاربنا ويقودنا للمجد الأبدي { لأَنَّهُ لاَقَ بِذَاكَ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ الْكُلُّ وَبِهِ الْكُلُّ، وَهُوَ آتٍ بِأَبْنَاءٍ كَثِيرِينَ إِلَى الْمَجْدِ، أَنْ يُكَمِّلَ رَئِيسَ خَلاَصِهِمْ بِالآلاَمِ. مِنْ ثَمَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَ إِخْوَتَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ رَحِيمًا، وَرَئِيسَ كَهَنَةٍ أَمِينًا فِي مَا ِللهِ حَتَّى يُكَفِّرَ خَطَايَا الشَّعْبِ. لأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ. }(عب ٢: ١٠، ١٧، ١٨). فالذي يتقبّل الألم بايمان، يدخل إلى عمق سرّ الشركة مع الله، ويختبر في ضعفه كمال قوة النعمة.

القمص أفرايم الانبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس

الآباء:

* أثناسيوس الرسولي: تجسد الكلمة، ترجمة القمص مرقس داود، المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية.

* باسيليوس الكبير: الرسائل، Letter 261.

* يوحنا ذهبي الفم: Homilies on Romans, Homily VIII.

* مقاريوس الكبير: Homilies, Homily 26.

* إيريناوس: Against Heresies, Book V.

* Frankl, V. (2006). Man's Search for Meaning. Beacon Press.

* Jung, C.G. (1964). Man and His Symbols. Anchor Press.

* Erikson, E. H. (1993). Childhood and Society. W.W. Norton & Company.

* Masten, A. S. (2001). "Ordinary Magic: Resilience Processes in Development." American Psychologist, 56(3), 227–238.

الأفخّاري الأعظم وتشكّل النفس - ١٧

 الأفخّاري الأعظم وتشكّل النفس - ١٧

+ الله هو الفخّاري الأعظم الذي يشكّل الإنسان، كما يشكّل الخزّاف الطين بيديه ليصنع منه إناءً للكرامة (إر 18: 6). هذه الصورة الرمزية العميقة تكشف عن علاقة شخصية وحية بين الخالق والمخلوق، حيث لا يترك الله النفس البشرية للصدفة أو الفوضى، بل يعتني بتشكيلها وتكميلها ويلتقي هذا المفهوم مع البُعد النفسي في عملية التكوين والنمو الشخصي، حيث تمر النفس بخبرات الألم، والانكسار، وإعادة البناء كجزء من رحلتها نحو النضج الروحي والإنساني.


+  إن الخزاف لا يمد يده للطين ولا يحرك عجلته إلا بعد ان يكون قد وضع في فكره وتخيله ما يريد أن يصنعه من الطين كخطة مسبقه في ارادته. إن الله يمتلئ بمشاعر الرحمة والحب تجاه كل واحد وواحدة منا ولديه صورة رائعة لما يريدنا عليه وما يريد أن نحققه، فلا ننساق وراء إبليس او اراء الناس او الظروف فليس اعتباطاً خلقك الله علي صورته وفي المكان الذي أنت فيه الان وفي هذه الاسرة او هذه البلد بالذات، بل ذلك في علم الله السابق: { وَصَنَعَ مِنْ دَمٍ وَاحِدٍ كُلَّ أُمَّةٍ مِنَ النَّاسِ يَسْكُنُونَ عَلَى كُلِّ وَجْهِ الأَرْضِ، وَحَتَمَ بِالأَوْقَاتِ الْمُعَيَّنَةِ وَبِحُدُودِ مَسْكَنِهِمْ} (أع ١٧: ٢٦). نحن مخلوقين لاعمال صالحة سبق الله فاعدها لنسلك فيها. هذا المفهوم كان موضع تأمل الآباء القديسين الذين رأوا فيه إعلاناً عن محبة الله التربوية ورعايته المستمرة للإنسان. أن الله صنع الكل حسنا جداً وصالح ومستقيم ولكن عصيان وتمرد البعض المستمر  يقودهم الي الموت والهلاك. وحتى أن فسد الوعاء لكن رجع وأطاع الله فانه يعيد تشكيله وعاء للمجد والكرامة كما يحسن في عيني صانع الخيرات الرحيم.

 اولاً: الله كفخاري في الكتاب المقدس..

+ في سفر إرميا سمع النبي صوت الرب قائلاً: { قُمِ انْزِلْ إِلَى بَيْتِ الْفَخَّارِيِّ وَهُنَاكَ أُسْمِعُكَ كَلاَمِي».  فَنَزَلْتُ إِلَى بَيْتِ الْفَخَّارِيِّ، وَإِذَا هُوَ يَصْنَعُ عَمَلاً عَلَى الدُّولاَبِ.  فَفَسَدَ الْوِعَاءُ الَّذِي كَانَ يَصْنَعُهُ مِنَ الطِّينِ بِيَدِ الْفَخَّارِيِّ، فَعَادَ وَعَمِلَهُ وِعَاءً آخَرَ كَمَا حَسُنَ فِي عَيْنَيِ الْفَخَّارِيِّ أَنْ يَصْنَعَهُ. } (إر ١٨: ٢-٤). كان الفخاري يصنع إناءً من الطين، وإذ فسد الإناء أعاد تشكيله كما حسن في عينيه. هنا يُعلن الله أنه لا ييأس من الإنسان مهما فسدت حياته، بل يعيد تشكيله وعلينا أن نكون كالطينة الطيعة في يد الله، الفخاري الأعظم ولا نقسى قلوبنا بل نطيع صوته ووصاياه.

+ وفي إشعياء النبي نراه يصرخ قائلاً: { والآن يا رب أنت أبونا. نحن الطين وأنت جابلنا، وكلنا عمل يديك} (إش 64: 8). فيعترف النبي بالخضوع الكامل لله، وأن الكرامة ليست من الطين نفسه بل من يد الخالق. 

+ عندما يدرك الإنسان أنه كالطين بين يدي الله فان ذلك يجب أن يولّد فينا الاتضاع ويبعدنا عن الكبرياء. فعندما نتكبر ونقاوم ضغطات يد الفخاري أو نكتم ذنوبنا فاننا نعاني أما المتواضع والمعترف بخطاياه فينال التبرير والراحة ويستجيب لعمل نعمة الله { لَمَّا سَكَتُّ بَلِيَتْ عِظَامِي مِنْ زَفِيرِي الْيَوْمَ كُلَّهُ لأَنَّ يَدَكَ ثَقُلَتْ عَلَيَّ نَهَارًا وَلَيْلاً. تَحَوَّلَتْ رُطُوبَتِي إِلَى يُبُوسَةِ الْقَيْظِ. سِلاَهْ.  أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي وَلاَ أَكْتُمُ إِثْمِي. قُلْتُ: «أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي» وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي.} (مز ٣٢: ٣-٥). نحن نحتاج الي التجديد المستمر والتعلم لان الله لا يترك الإناء إذا انكسر، بل يعيد تشكيله في مسيرة توبة دائمة وقصد الله ان يحررنا من خطايانا ونتعلم من أخطائنا ويحررنا من أنانيتنا لنتعلم حياة التسليم والطاعة الكاملة لله حتى التجارب والضيقات والأمراض فانها وسيلة لتنقية المؤمن في أتون الاتضاع الذي يجعل الإناء أقوى وأصلب، ويصلح لحمل نعمة الله والعمل مع الله فان غاية الله في تشكيلنا ليس مجرد الجمال الخارجي، بل أن يكون الإناء مستعداً ليُملأ من الروح القدس ويصير أداة بركة للعالم.

+ لقد استخدم السيد المسيح الطين لشفاء الأعمى منذ ولادته وخلق له عيون ( يو ٦:٩- ٧). في لمسه روحية لاعادة تشكيل وخلق عيون جسدية كخالق للإنسان والقديس بولس الرسول يشير إلى أن الله يصنع من الطين أواني للكرامة وأخرى للهوان، مؤكدًا علي حرية الله في التشكيل وواجبنا في الطاعة والعمل(رو 9: 21).

ثانياً: الفخارى الأعظم في منظور آباء الكنيسة

+ يرى القديس إيرينيؤس أن الله لم يكتفِ بخلق الإنسان، بل يستمر في تشكيله يومًا فيومًا، حتى يبلغ "قامة ملء المسيح". ويشبه القديس أثناسيوس الرسولي عمل الخلاص الذي قام به السيد المسيح كالفخّاري الذي يصلح ما تشقق من الإناء البشري نتيجة الخطية. أما فيؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم أن الله يستخدم الألم والتجارب كأدوات تشكيل، مثل النار التي تنقّي الذهب أو المطرقة التي تشكّل الحديد. ويري القديس غريغوريوس النيسي أن النفس تنمو تدريجيًا نحو الكمال، وأن الله يقودها خلال مراحل متتالية كما يقود الفخاري عجلة تشكيل الطين.

ثالثاً: الرؤية النفسية لعملية التشكيل

علم النفس الحديث يؤكد أن النفس البشرية تتشكل عبر خبرات الحياة: فيرى إريكسون في نظرية النمو النفسي الاجتماعي أن الإنسان يمر بمراحل متتابعة، وكل مرحلة تحمل صراعًا يُشكّل هويته. الفشل في مواجهة هذه الصراعات قد يشوّه النمو، بينما النجاح يقود إلى النضج.

ويرى فيكتور فرانكل في العلاج بالمعنى أن الألم والضيقات يمكن أن تكون أدوات لإعادة تشكيل الشخصية واكتشاف المعنى الأسمى للحياة. هذا يوازي الفكر الآبائي الذي يرى أن الله يستخدم الضيقات كأداة للتطهير. ويركز علم النفس الإيجابي على المرونة النفسية بوصفها قدرة الإنسان على إعادة التشكّل بعد الانكسار، وهو ما يشبه إعادة الفخاري تشكيل الإناء إذا انكسر.

رابعاً: ابعاد التشكيل الإلهي وتطبيقاته..

+ الألم كأداة تشكيل: كما تُدخل النار الطين في مرحلة النضج ليصبح صلبًا، يستخدم الله الألم لتقوية النفس وتطهيرها.

+ الحرية الإنسانية: بالرغم من يد الله الفعّالة، يبقى الإنسان شريكًا بالحرية والإرادة في الاستجابة لعمل التشكيل.

+ الهوية الجديدة: كما يضع الفخاري ختمه على الإناء، يضع الله صورته في النفس البشرية لتكون على شبه المسيح (رو 8: 29).

اما التطبيقات العملية

+ قبول الضيقات كجزء من عمل التشكيل الإلهي.

+ ممارسة الصمت والصلاة والاستجابة لنداءات روح الله فينا كوسيلة لتسليم الذات بين يدي الفخاري.

+ الاستفادة من العلاج الروحي والنفسي معًا لإعادة البناء الداخلي.

+ التمسك بالرجاء في أن كل تجربة تُستخدم للخير (رو 8: 28).

 الله خالق للنفس البشرية، و كفخّاري أعظم يستمر في تشكيلها حتى تصير "إناءً للكرامة" مهيأًة لكل عمل صالح. هذا التشكيل الإلهي يتكامل مع الرؤية النفسية التي ترى في الألم والخبرة الإنسانية أدوات للنمو وإعادة البناء. ومن ثم، فإن الصورة الكتابية للفخاري ليست مجرد استعارة شعرية، بل حقيقة لاهوتية ونفسية تعكس عمل الله المستمر في الإنسان.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس

* القديس إيرينيؤس، ضد الهرطقات.

* القديس أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.

* يوحنا ذهبي الفم، عظات على رومية.

* غريغوريوس النيسي، حياة موسى.

* Erikson, E. H. (1968). Identity: Youth and Crisis.

* Frankl, V. (2006). Man’s Search for Meaning.

* Peterson, C., & Seligman, M. E. P. (2004). Character Strengths and Virtues.

التفكير الإيجابي وبناء النفس - ١٦

 التفكير الإيجابي وبناء النفس - ١٦


+ التفكير الإيجابي ليس تقنية بشرية لتحسين المزاج، بل هو دعوة روحية ونفسية عميقة، يشهد لها الكتاب المقدس ويؤكدها آباء الكنيسة ويبرهن عليها علم النفس الحديث. عندما يتجدد الذهن ليكون لنا فكر المسيح وننمو في محبة الله والخير والنور يحوّل المؤمن مسيرته من الأنانية والانغلاق أو التشاؤم واليأس إلى الانفتاح بالإيمان علي محبة الله والأخرين ويستنير ذهنه ويحب أخوته كنفسه وينطلق ويبادر ليخدم الغير ويحب عمل الخير ومن هنا تأتي أهمية دراسة التفكير الإيجابي من منظور لاهوتي ونفسي متكامل.

أولًا: التفكير الإيجابي في الكتاب المقدس

+ إن روح الله هو روح الإيجابية في الحياة والخلق والتجديد { تُرْسِلُ رُوحَكَ فَتُخْلَقُ، وَتُجَدِّدُ وَجْهَ الأَرْضِ.} (مز ١٠٤: ٣٠). والإنسان الذي يحيا في المسيح يميت الإنسان العتيق ويلبس الإنسان الجديد الذي يتجدد يوماً فيوم فليبس الإنسان الجديد الذي يتجدد علي صورة خالقه من مجد لمجد { وَلَبِسْتُمُ الْجَدِيدَ الَّذِي يَتَجَدَّدُ لِلْمَعْرِفَةِ حَسَبَ صُورَةِ خَالِقِهِ.} (كو ٣: ١٠). لقد بادر المسيح وتجسد لأجل خلاصنا وجال يصنع خير ويشفي المرضى { وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعفٍ فِي الشَّعْبِ. وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ تَحَنَّنَ عَلَيْهِمْ، إِذْ كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا.} (مت ٩: ٣٥، ٣٦). والمسيح يسوع ربنا هو امس واليوم وإلي الابد يقول: { أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ. }(يو ٥: ١٧). والله يريد أن يعمل بنا ومعنا ونحن نصلي ونقول " أشترك في العمل مع عبيدك في كل عمل صالح". يجب ان يكون لنا فكر المسيح المبادر والخلاق الذي يعمل حتى دون أن نطلب. والتفكر الجيد هو مفتاح التحول الداخلي، والتركيز علي التفكر في الخير والحق يطور منا للأفضل { كل ما هو حق، كل ما هو جليل، كل ما هو عادل، كل ما هو طاهر، كل ما هو مسرّ… ففي هذه افتكروا} (في 4: 8). هذه الآية تمثل أساسًا كتابيًا للتفكير الإيجابي، إذ توجّه الإنسان نحو ما يبني ويعطي محبة ورجاء وسلام لمن حوله وتغيير الفكر لابد ان يتبعه التخلص من الافكار والعادات السلبية وأكتساب عادات إيجابية تخلق فينا شخصيات إيجابيه تجول تصنع خير وتنمو في التعلُم والمعرفة والخبرة والنجاح يوما فيوم.

+ الإيجابية في مواجهة الصعاب.. 

يدعونا الكتاب الي الإيمان بالله والثقة في محبته، رغم الضيقات والتجارب فان المسيح الغالب يغلب بنا وفينا { قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ». (يو ١٦: ٣٣). ويقول داود النبي { الرب نوري وخلاصي، ممن أخاف؟} (مز 27: 1). نحيا نفرح في رجائنا بالمسيح { وَنَفْتَخِرُ عَلَى رَجَاءِ مَجْدِ اللهِ. وَلَيْسَ ذلِكَ فَقَطْ، بَلْ نَفْتَخِرُ أَيْضًا فِي الضِّيقَاتِ، عَالِمِينَ أَنَّ الضِّيقَ يُنْشِئُ صَبْرًا،  وَالصَّبْرُ تَزْكِيَةً، وَالتَّزْكِيَةُ رَجَاءً،  وَالرَّجَاءُ لاَ يُخْزِي، لأَنَّ مَحَبَّةَ اللهِ قَدِ انْسَكَبَتْ فِي قُلُوبِنَا بِالرُّوحِ الْقُدُسِ الْمُعْطَى لَنَا. }(رو ٥: ٢-٥). والرجاء ليس إنكارًا للصعاب، بل هو  ثقة في الله الحاضر وسط التجربة.

ثانيًا: الفكر الإيجابي في تعاليم آباء الكنيسة

+ يقول القديس مقاريوس الكبير: "كما أن بيتًا ممتلئًا نورًا لا يقتحمه لصوص، كذلك النفس المملوءة من أفكار الرجاء لا يدخلها العدو". والقديس يوحنا الذهبي الفم: "ليس ما يزعجك من الخارج، بل فكرك هو الذي يصنع الاضطراب. فإن ثبّت ذهنك في الله لا يقدر الشر أن يغلبك" (عظة على متى 6). أما  الانبا أنطونيوس الكبير فيقول "عظيم هو الإنسان الذي يضبط أفكاره، فإنه بهذا يقدر أن يواجه حروب الشياطين بسلام". التفكير الإيجابي عند الأباء هو ثبات الفكر في المسيح، الذي يطرد اليأس ويعطي قوة داخلية.

ثالثًا: البعد النفسي للتفكير الإيجابي

يوضح مارتن سليغمان (Seligman, 2002)  أن التفكير الإيجابي يعزز المرونة النفسية ويقود الإنسان إلى حياة أكثر رضا ومعنى. ويؤكد أرون بيك (Beck, 1976) أكد أن الأفكار السلبية تقود إلى مشاعر وسلوكيات مدمرة، بينما استبدالها بأفكار إيجابية واقعية يحرر الفرد من القلق والاكتئاب. والأبحاث العلمية الحديثة (Fredrickson, 2001) أثبتت أن التفكير الإيجابي يحسّن مناعة الجسد، ويقلل من التوتر، ويزيد من معدلات التعافي النفسي والجسدي.

رابعًا: التكامل بين اللاهوت وعلم النفس

من منظور كتابي: التفكير الإيجابي هو دعوة كتابية لتجديد الذهن وثباته في الحق وتشبه بالمسيح الذي يجول يصنع خير، ومن منظور آبائي: هو جهاد روحي لحفظ الفكر في الرجاء والفرح بالمسيح.

أما من وجهة علم  النفس فهو مهارة عملية مدعومة علميًا تساعد الإنسان على مواجهة الضغوط وإعادة بناء ذاته. وهذا التكامل يجعل التفكير الإيجابي وسيلة روحية ونفسية متكاملة لنمو الإنسان الداخلي وتحقيق سلامه العميق. فالتفكير الإيجابي، كما يقدمه الكتاب المقدس وآباء الكنيسة وعلم النفس الحديث، هو أكثر من مجرد تفاؤل. إنه حياة متجددة تُبنى على الثقة بالله، والانفتاح على الخير، وإرادة قوية لمواجهة تحديات الواقع. وهكذا يتحول الفكر إلى قوة تبني الشخصية وتنفتح لها طاقات الرجاء والسلام، ليصير الإنسان { خليقة جديدة في المسيح} (2 كو 5: 17)، أمين.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

الكتاب المقدس

آباء الكنيسة

مقاريوس الكبير، العظات الروحية.

يوحنا الذهبي الفم، عظات على إنجيل متى.

أنطونيوس الكبير، رسائل القديس الأنبا أنطونيوس.

علم النفس

* Beck, A. (1976). Cognitive Therapy and the Emotional Disorders. New York: International Universities Press.

* Seligman, M. (2002). Authentic Happiness. New York: Free Press.

* Fredrickson, B. (2001). “The role of positive emotions in positive psychology.” American Psychologist, 56(3), 218–226.