نص متحرك

♥†♥انا هو الراعي الصالح و الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف يو 10 : 11 ♥†♥ فيقيم الخراف عن يمينه و الجداء عن اليسار مت32:25 ♥†♥ فلما خرج يسوع راى جمعا كثيرا فتحنن عليهم اذ كانوا كخراف لا راعي لها فابتدا يعلمهم كثيرا مر 34:6 ♥†♥ و اما الذي يدخل من الباب فهو راعي الخراف يو 2:10 ♥†♥

الأحد، 12 أكتوبر 2025

( القلب وأهميته في الحياة الروحية ( ٨

( القلب وأهميته في الحياة الروحية ( ٨

أولاً: القلب كمركز للحياة الروحية 

القلب ليس مجرد عضو بيولوجي، بل ينظر اليه كمركز الوجود الإنساني من حيث الفكر والإرادة والعاطفة والقرارات والمشاعر. في الكتاب المقدس واللاهوت الآبائي، يُعتبر القلب موضع اللقاء مع الله، بينما في الطب وعلم النفس الحديث يُنظر إليه كوحدة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحالة النفسية والجسدية. والله كخالق لجبلتنا يؤكد أهمية القلب في حياتنا الروحية ويوصي في الكتاب قائلا: { فوق كل تحفظ احفظ قلبك لان منه مخارج الحياة } (ام 4 : 23). ويقصد بالقلب ليس فقط مضخة الدم التي بها ينقل الدم النقي في الشرايين والاوردة لكل خلايا الجسد بل يقصد به أعماق الإنسان ومشاعره ونياته، ولهذا نعمل علي نقاوة القلب لكى نرى الله: { طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ.} (متى ٥: ٨). ونقاوة القلب تعني طهارته وعدم التوائه فلا يعرج المؤمن بين محبة الله، ومحبة العالم { تحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك}(مت 22 : 37). والمؤمن أذ يعرف ضعفه فانه يطلب من الروح القدس أن يقوم بحراسة القلب وتقديسه لينقاد لروح الله ولا يترك مجالاً لفكرٍ شريرٍ أو نظرةٍ رديئة أن تقتحمه { القلب الحكيم العاقل يمتنع من الخطايا وينجح في اعمال البر} (سير 3 : 32). بالجهاد الروحي وعمل النعمة يصفو القلب ويتنقّى باشتياقاته وأحاسيسه ودوافعه فلا يطلب إلا الله وحده، فيعاينه بالإيمان ويحل

ملكوت الله داخل القلب النقي ويصير مسكناً لله

+ من اجل نقاوة قلوبنا نحرص علي تقديس حواسنا وطهارة فكرنا وتغذيته بافكار مقدسة فيكون لنا فكر المسيح، ونعمل لمحبة الله من كل القلب فتكون لنا مشاعر الحب القوي نحو الله واخوتنا واحشاء رحمة وحنو نحو كل الخليقة. وعندما يتنقي القلب من الخطية ونحيا في مخافة ومحبة لله يحل المسيح بالإيمان في قلوبنا ونعاين جلال مجدة ونتمتع بالشركة والإتحاد به ويصير القلب مكان سكنى روح الله ويستطيع المؤمن أن يعاين الله ويشعر بحضوره معه، ليس بالرؤية أو السماع الحسى، بل بالإحساس الروحى. القلب يحوي العيون التي تُعاين الله هذه العيون يتحدّث عنها الرسول بولس قائلاً: { إنارة عيون قلوبكم} (أف 1: 18). أنها تستنير بالإيمان { لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان} (2 كو 5: 6-7). فمباركين اولئك الساعين لنقاوة قلوبهم من كل غش وخطية، الذين يعيشوا حياة العفة والنقاوة ويغتسلوا ويتطهروا ويتبرروا في دم الحمل هولاء يُعلن الله لهم ذاته بالطريقة التي يحتملها القلب، فإن الله لا يُحد بالنظر ولا بسمع الأذن، بل نعاين الله بالروح { الروح يفحص كل شيء حتى اعماق الله }(1كو 2 : 10). اننا الان ننظر في مرآه، لكن في الأبدية حينئذ سنرى الله وجهاً لوجه. الأن نعرف بعض المعرفة لكن هناك سنمتلئ بمحبة ومعرفة وتسبيح الله { أَمَّا أَنَا فَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ وَلِيِّي حَيٌّ، وَالآخِرَ عَلَى الأَرْضِ يَقُومُ، وَبَعْدَ أَنْ يُفْنَى جِلْدِي هذَا، وَبِدُونِ جَسَدِي أَرَى اللهَ.} (أي ١٩: ٢٥، ٢٦). سنقوم في اليوم الأخير باجساد روحانية نورانية ممجدة ونكون كملائكة الله.

ثانياً: القلب في فكر الآباء علم النفس والأطباء 

+ القلب في فكر الآباء هو  هيكل الله فيقول القديس مقاريوس الكبير: "قلب الإنسان صغير، لكنه يسع السماء والأرض إذا سكن فيه الله. أما القديس أثناسيوس الرسولي فيقول : "القلب النقي هو الذي يطلب الله وحده ولا ينقسم بين محبة العالم ومحبة الخالق". ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم في عظة له عن التوبة : "ليس شيء أنقى من القلب الذي يعلن لله خطاياه ولا يخفيها عنه". أما القديس يوحنا السلمي فيربط بين نقاوة القلب وفضيلة الهدوء حيث يصفها بأنها باب لمعاينة الله.

+ ومن منظور علم النفس فالقلب هو مركز العواطف والانفعالات ويربط علماء النفس بين العواطف كالقلق، الغضب، الحزن وبين الأعراض الجسدية مثل تسارع ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم. كما يرتبط النقاء النفسي بالنقاء الروحي ويشير العلاج النفسي الحديث  إلى أهمية التحرر من الذكريات السلبية وقبول المغفرة من الله وممارسة الغفران للمسيئين الينا لتحقيق سلام داخل النفس وتؤثر الصحة النفسية مباشرة على القدرة على الصلاة والتواصل الروحي، والعكس صحيح.

 + ومن المنظور الطبي فالقلب عضو حيوي يضخ حوالي ٤ الي ٥ لتر في كل دقيقة وبمعدل ٥٧٦٠ الي ٧٢٠٠ لتر في يومياً وتذيد الكمية الي ٣٥ لتر في الدقيقة لدى الرياضيين في اوج نشاطهم ليغذى القلب كل اجهزة الجسم ومكوناته بالتغذية والاوكسجين للقيام بوظائفها الحيوية وللمحافظة علي القلب سليم ينصح الأطباء بنظام غذائي صحي وممارسة الرياضة بانتظام والاقلاع عن التدخين ويوصي الأطباء بزيارة طبيب القلب عند الشعور باعراض قلبية كالم الصدر والدوار أو تورم القدمين وفي حالات الطغط المرتفع وزيادة معدلات الكلوستيرول في الدم.

+ وقد أكدت الدراسات الطبية العلاقة بين الروح والجسد وصحة القلب فأن الصلاة والتأمل يقللان من ضغط الدم ويحسنون من معدل ضربات القلب. وقد ذكرت منظمة الصحة العالمية أن الضغوط النفسية المزمنة من أهم مسببات أمراض القلب والشرايين.

ثالثاً:  كيف نحصل على قلب نقي؟

بممارسة الصلاة القلبية الدائمة التي أختبرها الآباء : "يا رب يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ".  وبقراءة الكتاب المقدس فان كلمة الله تغذى وتنقي وتعزي وتقوى { أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به} (يو 15: 3). وبالغفران والمصالحة مع الأخرين وباعمال الرحمة يجد الإنسان سلامه وراحة وفرح قلبه. أما العلاج النفسي الحديث فيوصى بتجنب الضغوط النفسية المفرطة وبالتعامل الايجابي لعلاج الغضب والقلق وممارسة الغفران كطريق للسلام الداخلي. ويوصى الأطباء بالوقاية من أمراض القلب بالغذاء الصحي والرياضة والنوم الكافي.

+ إن القلب في المسيحية هو مركز الكيان الروحي والنفسي والجسدي. نقاوته ليست مجرد مشاعر، بل ثمرة عمل النعمة مع التوبة والجهاد. الطب وعلم النفس يؤكدان أهمية السلام الداخلي في الحفاظ على صحة القلب الجسدية. هكذا يلتقي الفكر الآبائي مع العلم الحديث ليؤكدا أن القلب النقي هو أساس الحياة السليمة والقداسة. نصلي ان يطهر الله قلوبنا وينقيها بروحه القدوس ويجعل منها هياكل مقدسه لحلوله ولعمل نعمته لتنبض بمحبته وشكره وتسبحه ويكون لنا قلوب رحيمه تقدم المحبة وتصنع الرحمة مع كل أحد، أمين.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى 

المراجع

    الكتاب المقدس

* مقاريوس الكبير، العظات الروحية.

* أثناسيوس الرسولي، ضد الوثنيين.

* يوحنا الذهبي الفم، عظات عن التوبة.

* يوحنا السلمي، السلم

مراجع طبية ونفسية

* Guyton, A.C. & Hall, J.E. (2021). Textbook of Medical Physiology. Elsevier.

* Benson, H. (2000). The Relaxation Response. Harvard Medical School.

* Enright, R. (2015). Forgiveness Therapy. American Psychological Association.

* American Psychological Association (2020). Stress and Heart Health.

* World Health Organization (2022). Cardiovascular Diseases Factsheet.

( الروح الإنسانية واهميتها (٧

( الروح الإنسانية واهميتها (٧

+ تُعدّ الروح الإنسانية من أعمق المفاهيم التي شغلت الفكر البشري، إذ تمثل البعد الداخلي والسماوي للإنسان، والسر الذي يميّزه عن بقية المخلوقات. فالروح هي التي تمنح الإنسان القدرة على التفكير والحرية والإبداع، وترفعه من المستوى الغريزي إلى المستوى الروحي والأخلاقي. {اَلرُّوحُ هُوَ الَّذِي يُحْيِي.}(يو ٦: ٦٣). وفي اللاهوت المسيحي تُعتبر الروح "نفخة من الله" التي بها صار الإنسان على صورة الله ومثاله. وقد اهتم آباء الكنيسة بتوضيح دور الروح الإنسانية باعتبارها مركز الشركة مع الله والدافع الي الخير والقداسة والفضيلة. بينما ركز علماء النفس أن للروح بعدًا يتجاوز حدود العقل والجسد، ويمنح الإنسان معنى لوجوده، ويعينه على تجاوز الأزمات النفسية وبالروح نميز بين الخير والشر علي مستوى أعمق من العقل. أما علم الاجتماع فقد أبرز أن الروح الإنسانية ليست مجرد بُعد فردي، بل هي أيضًا أساس الضمير الجمعي، والمصدر الذي تنبع منه القيم والأخلاق التي تحفظ المجتمع من الانهيار ولهذا نسعى لمعرفة مفهوم الروح الإنسانية في الفكر الآبائي والعلوم الإنسانية؟ وأهمية الروح ودورها لحياة الفرد وكيف يمكن أن نقويها؟ ونقارن بين التراث الآبائي المسيحي، وعلم النفس لتقديم رؤية متكاملة للروح ودورها في حياة الإنسان المعاصر.

اولاً : الروح من المنظور اللاهوتي الآبائي 

هى عنصر أساسي في تكوين الإنسان كما يؤكد سفر التكوين أن الإنسان صار حيًّا بعدما نفخ الله في أنفه نسمة حياة (تك 2: 7). فالروح هنا ليست مجرد مبدأ بيولوجي، بل هي عطية إلهية تجعل الإنسان كائنًا روحيًا عاقلًا فبمفارقة الروح للجسد يرجع الجسد الي التراب وتعود الروح الي خالقها {فَيَرْجعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا.} (جا ١٢: ٧). وفي العهد الجديد الروح الإنسانية تتقدس بالروح القدس الذي يقودها ويرشدها ويعطيها الحكمة والأفراز فيقول بولس الرسول { أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم؟} (1كو 3: 16). وعلينا ان نطيع الله أب الأرواح لنحيا {ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأَوْلَى جِدًّا لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟} (عب ١٢: ٩).

+  وقد أهتم الآباء الرسوليين والمدافعون بتوضيح أن الروح هي عنصر الإلهي في الإنسان فيقول القديس إيرينيؤس في القرن الثاني : «مجد الله هو الإنسان الحي، وحياة الإنسان هي رؤية الله». فالروح تمنح الإنسان القدرة على معرفة الله والألتصاق به والقديس أثناسيوس الرسولي يوضح أن الروح هي ما يجعل الإنسان على صورة الله، وأن سقوطها بالخطية أدى إلى فساد الطبيعة، وقد جاء السيد المسيح ليجدد هذه الصورة. اما القديس باسيليوس الكبير فكتب عن الروح باعتبارها العنصر الذي يمنح الحرية الحقيقية للإنسان، مؤكدًا أن الروح تنفتح على الله بالصلاة والأسرار. ويؤكد التراث الآبائي على أن الروح ليست فكرة نظرية، بل هي محور الحياة الروحية اليومية وبالصلاة تتقوى الروح ووصف القديس غريغوريوس النيسي الصلاة بأنها "تنفس الروح" الذي يجدد علاقة الإنسان بالله. وهكذا فإن الرؤية الآبائية تنظر إلى الروح باعتبارها مركز هوية الإنسان، والوسيلة التي تربطه بالله، ومحور نموه الروحي والأخلاقي.

ثانياً: الروح الإنسانية وعلم النفس

اهتم علم النفس منذ بداياته بمحاولة فهم البُعد الروحي أو الداخلي للإنسان، وإن كان التعبير يختلف من مدرسة إلى أخرى فركز فرويد (1856–1939) على الغرائز الجنسية والعدوانية باعتبارها القوى المحركة للإنسان. ولم يتعامل مع الروح بوصفها كيانًا مستقلاً، بل فسّر المظاهر الروحية والدينية كاستجابات نفسية تعويضية. ومع ذلك، فإن تحليله للصراع الداخلي يربط بين نزعات الإنسان المادية ونداء الضمير الذي يرتبط بالروح.

أما كارل يونغ (1875–1961) فكان أكثر فهما للروح، إذ رأى أن النفس البشرية تتكون من الوعي واللاوعي، وأن في اللاوعي نماذج أولية تعبر عن خبرات روحية مشتركة للبشرية. واعتبر أن غياب البعد الروحي يؤدي إلى اضطرابات نفسية مرتبطة بفقدان المعنى. وأكد على أن الإنسان يحتاج إلى اختبار روحاني داخلي يحقق التوازن بين الوعي وأللاوعي. ويبرز كارل روجرز (1902–1987) من رواد المدرسة الإنسانية في علم النفس علي النزعة التحققّية كقوة داخلية تدفع الإنسان نحو النمو والتكامل، وهو ما يبين أن الروح مبدأ داخلي للارتقاء. كما يؤكد على أن العلاقة الحقيقية مع الذات ومع الآخر شرط لصحة الإنسان النفسية والروحية. واهتم فيكتور فرانكل (1905–1997) الذي أسس مدرسة "العلاج بالمعنى" وقد عاش تجربة معسكرات الاعتقال النازية، حيث لاحظ أن الأشخاص الذين وجدوا معنى لحياتهم استطاعوا البقاء، بينما استسلم الآخرون لليأس. ويرى فرانكل أن الروح الإنسانية هي البعد الثالث في الكيان الإنساني إلى جانب الجسد والنفس وأنها لا تُدمَّر حتى في أقسى الظروف. مما جعله يتخذ شعار لمدرسته: «من له سبب يعيش من أجله يمكنه أن يحتمل أي شيء». والعلاج بالمعنى يساعد الإنسان على إدراك أن الروح هي مصدر الحرية الداخلية، وحتى في المعاناة يمكن اكتشاف معنى جديد للحياة. ومع تطور الدراسات النفسية، ظهر توجه جديد يُعرف بـعلم النفس الإيجابي والروحي، الذي أعاد الاعتبار إلى الروح باعتبارها بُعدًا أصيلًا للإنسان فاليقظة الذهنية تستمد من ممارسات روحية وتأملية، طُورت كأداة علاجية تساعد الفرد على الانتباه للحظة الحاضرة، وإعادة الاتصال ببُعده الداخلي مما يقلل من القلق والاكتئاب، ويعزز التوازن النفسي. ويركز علم النفس الإيجابي وموسسه مارتن سليغمان على الفضائل الإنسانية كالرجاء، الامتنان، المحبة، الإيمان. ويؤكد أن البُعد الروحي هو أحد أعمدة الراحة الروحية. أما الطب النفسي الروحي فيقر بدور الروح والإيمان في العلاج ويدمج بين العوامل الروحية في برامج العلاج النفسي والطبي. وهذا التطور يؤكد علي أن الروح تمنح الإنسان القدرة على البقاء وتجاوز المعاناة وهي عنصر أساسي في الصحة 

ثالثاً:  كيف ننمي ونخلصها

+ إن للاسرة المسيحية والكنيسة دور هام في تنشئة اولادهم علي الإيمان والأهتمام بارواحهم وخلاصها كاهتمامهم بنموهم الجسدى وصحتهم وتعليمهم ليكونوا قدوة لهم في عالم الميديا وذلك لتنمية الحس الروحي والعلاقة بالله والصلاة فيقول القديس مقاريوس الكبير: "النفس التي تصلي بغير انقطاع تمتد جذورها في السماء"، فالصلاة هي غذاء الروح. كما ان الكتاب المقدس والتأمل فيه نور للروح { سراج لرجلي كلامك ونور لسبيلي} (مز 119: 105). وبالارتباط باسرار الكنيسة وبالتناول والاتحاد بجسد الرب ودمه يجدد حياتنا وتستنير ارواحنا وتقوى وتنموا وتثمر فضائل روحية كالمحبة، الاتضاع، الرحمة... ويقول القديس أنطونيوس: "كما أن السمك لا يعيش خارج الماء، هكذا الروح لا تحيا إلا بالله". إن التوبة المستمرة تجدد الروح وتعيدها إلى نقائها الأول. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "ليس شيء يطهر الروح مثل دموع التوبة". لأن الأهواء كالكبرياء، والشهوة والغضب تظلم الروح. والقديس باسيليوس الكبير يقول: "الروح إذا تنجست بالخطية لا تعكس نور الله". إن الروح الإنسانية لا تخلص بقوتها الذاتية، بل بعمل الروح القدس الذي يقدسها. يقول الرسول بولس: { اللروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله} (رو 8: 16).

+ أننا نعترف انه في ظل العولمة والتغيرات المتسارعة، فان الإنسان يواجه تحديات تهدد روحانيته وكيانه الداخلي ومنها الفردانية المفرطة والبعد عن الله والانشغال بالمادة والميديا والثقافة السطحية وشهوات العالم وهذا يؤدي إلى تراجع دور الروح وفقدان القيم الفاضلة وإقصاء البعد الروحي من الحياة العامة مما جعل الكثيرين يعانون من فراغ وجودي. وهنا تبرز الحاجة لإعادة الاعتبار للروح الإنسانية كعنصر أساسي في حياتنا نعمل علي خلاصها { لأَنَّهُ مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ، وَأَهْلَكَ نَفْسَهُ أَوْ خَسِرَهَا؟ }(لو ٩: ٢٥). ورغم فوائد التكنولوجيا، فإن الإفراط في استخدامها يولّد عزلة اجتماعية واغتراب داخلي. لهذا فنحن في حاجة الي تقوية الروح كوسيلة لرقى الفرد ومواجهة الاغتراب والعنف والإرهاب والأنانية وتعزيز قيم السلام والتعاون والتعايش الذي يمنح المجتمع تماسكه واستمراريته وتقدمه ورقيه.

القمص أفرايم الأنبا بيشوي

السبت، 11 أكتوبر 2025

الجسد الإنساني ودوره وكرامته (٦)

 الجسد الإنساني ودوره وكرامته- ٦

الجسد الإنساني ليس مجرد مادة أو وعاء يحمل الروح، بل في الفكر المسيحي والإنساني فان الجسد هو كيان ذو كرامة،


خلقه الله {حسنًا جدًا}(تك 1: 31)، ليكون شريكًا في الخلاص وحياة الشركة مع الله. وكتب آباء الكنيسة عن مكانة الجسد وعمله، في مواجهة تيارات فكرية كانت تحتقر المادة والجسد كالغنوسية والمانوية. كذلك أهتم علم النفس والاجتماع بالجسد باعتباره بُعدًا أساسيًا للهوية الإنسانية، وعاملاً في الصحة النفسية والتواصل الاجتماعي. لقد تجسد كلمة الله واشترك معنا في الجسد الانساني وجاء عنه:{ وَكَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئًا حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ.} (لو ٢: ٤٠). علينا أن نحترم أجسادنا ونربيها في مخافة الله فنحن نجاهد ضد شهوات الجسد لا ضد الجسد كوزنة وعطية مقدسة من الله تعمل مع النفس والروح لخلاصنا { أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ التَّصَرُّفِ السَّابِقِ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ الْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ الْغُرُورِ،  وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ،  وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ. }(أف ٤: ٢٢-٢٤).

أولاً: الجسد الإنساني في فكر الآباء

الجسد هو خليقة الله الصالحة { فَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ}(تك 2: 7).

والجسد مدعو للمجد والقيامة: { أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ أَجْسَادَكُمْ هِيَ هَيْكَلٌ لِلرُّوحِ الْقُدُسِ؟} (1كو 6: 19). ويوصينا الكتاب المقدس بالاهتمام باجسادنا كعطية مقدسة ووزنة من الله { فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ، بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضًا لِلْكَنِيسَةِ. }(أف ٥: ٢٩). يقول القديس إيريناوس " إن الجسد جزء لا يتجزأ من هوية الإنسان، والخلاص يشمل النفس والجسد معًا.

أما القديس أثناسيوس الرسولي فيقول أن "التجسد الإلهي أظهر قيمة الجسد { الكلمة صار جسدًا} (يو 1: 14). التجسد الإلهي رفع الجسد إلى المشاركة في الحياة الإلهية ورفع من قيمة الإنسان كوضع أهتمام الله لخلاص الإنسان جسد ونفس وروح. ويقول القديس مقاريوس الكبير فيقول " إن الجسد أداة للعمل الروحي، إذ يشارك بالصلاة والسجود والصوم." وحذر القديس يوحنا ذهبي الفم من احتقار الجسد، مؤكدًا أن المشكلة ليست في الجسد بل في إساءة استخدام الحرية، فالخطيئة ليست من طبيعة الجسد بل من سوء الإرادة.

+ أبعاد عمل الجسد في الحياة الروحية

 للجسد الإنساني كرامته أذ يشارك في الأسرار المقدسة من معمودية، وميرون وأفخارستيا وكل الخدمات التي نقوم بها يشترك فيها الجسد والنفس والروح فالجسد أداة للخدمة وللتسبيح {كل نسمة فلتسبح الرب} (مز 150: 6). والجهاد الروحي يشمل ضبط الجسد بالصوم والسهر كوسيلة لتقديسه.

ثانيًا: الجسد في علم النفس

أما الجسد بالنسبة لعلماء النفس فيبرز دوره لانه يعطى الهوية النفسية للفرد. ويرى علماء النفس مثل سيغموند فرويد أن الجسد هو نقطة البداية لتكوين صورة الذات والهوية الشخصية. وصورة الجسد "Body Image" بالنسبة لنا عامل أساسي في الصحة النفسية، حيث يؤثر على تقدير الذات والثقة بالنفس. كما أن الجسد وسيلة للتعبير عن النفس ويعكس الانفعالات بتعبيرات الوجه، حركات اليدين. وحتى طريقة المشى وفي المدرسة الإنسانية عند كارل روجرز وأبراهام ماسلو فان الجسد ليس مجرد أداة، بل تعبير عن الكينونة الإنسانية الكاملة. ويؤكد علم النفس الحديث على العلاقة بين الصحة النفسية والصحة الجسدية فالضغوط النفسية تظهر في الجسد كأمراض قرحة المعدة، ارتفاع الضغط، ضعف المناعة.

ثالثًا: الجسد في علم الاجتماع

اما في علم الأجتماع فالإنسان كائن أجتماعي والجسد يبرز كيان الفرد وهويته ويرى علماء الاجتماع مثل إميل دوركايم، وبيير بورديو أن الجسد ليس ملكًا فرديًا فقط، بل له أبعاد اجتماعية وثقافية. ويفرض المجتمع أنماط معينة على الجسد في الملبس والسلوكيات والعادات وتشترك العادات الاجتماعية والدينية في دور الجسد بشكل مباشر كالوقوف، الركوع، الصيام، الأعياد وخلافه. فالجسد وسيلة للتعبير عن الانتماء والهوية الجمعية.

+ في الفكر الإنساني فان الكرامة الإنسانية غير قابلة للانفصال فاحترام الجسد من حقوق الإنسان الأساسية مثل مقاومة العنف الجسدي ومكافحة الاستعباد. وأن كان الجسد يُعتبر مجالاً للصراع بين الحرية الفردية والضوابط الاجتماعية كما في قضايا الإدمان، العنف، الاستغلال الجنسي وعلينا الاهتمام باجسادنا وصحتها فالعقل السليم في الجسد السليم.

+ الجسد الإنساني أذاً في الفكر الآبائي والنفسي والاجتماعي ليس مجرد كيان مادي، بل هو حامل للكرامة، أداة للعمل، ومجال للشركة مع الله والآخرين. فالآباء شددوا على قدسية الجسد، لأنه مدعو للخلود، والمسيح نفسه قد تجسد ليقدس طبيعتنا الجسدية. أما علم النفس، فأبرز دور الجسد في الهوية والتوازن النفسي، وعلم الاجتماع كشف عن أبعاده الجماعية والثقافية. وعليه، فإن تكامل هذه الرؤى يقدم للإنسان نظرة متكاملة إلى جسده: كهيكل للروح، وأداة للنمو النفسي، ووسيلة للتواصل الاجتماعي، مما يعزز دعوة الكنيسة والعلم معًا إلى احترام الجسد وكرامته.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع 

  * الكتاب المقدس

* القديس أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.

* القديس إيريناوس، ضد الهرطقات.

* يوحنا ذهبي الفم، عظات على الرسالة إلى أهل كورنثوس.

* McGuire, M. B. (2008). Lived Religion: Faith and Practice in Everyday Life. Oxford University Press.

* Gallagher, S. (2005). How the Body Shapes the Mind. Oxford University Press.

* Freud, S. (1923). The Ego and the Id.

* Bourdieu, P. (1977). Outline of a Theory of Practice.

(الدخول لأعماق النفس (٥

 (الدخول لأعماق النفس (٥


اولاً- رحلة الي الأعماق

النفس البشرية سرّ من أسرار الخليقة، عميقة بقدر لا يُقاس، لأنها خُلقت على صورة الله ومثاله (تك 1: 26). وقد أكد الآباء أن معرفة النفس هي الطريق إلى معرفة الله، بينما شدّد علماء النفس على أن الغوص في أعماق النفس ضرورة لفهم السلوك والتحرر من الصراعات. ومن هنا تلتقي الرؤية الروحية مع التحليل النفسي في دعوتها للإنسان إلى رحلة داخلية، للدخول إلى اعماق النفس ويقول داج همرشلد، الأمين العام السابق للأمم المتحدة "إن اطول الرحلات هى الارتحال إلي داخل النفس".  وهذه الرحلة من أهم الرحلات علي الأطلاق، لانه بداخل النفس سنعثر علي ملكوت الله، واعظم موارد الإنسان والد اعدائه ايضاً. الإنسان عالم مصغر وكلما دخلنا الي أعماقنا أكتشفنا قيمتها ومشاكلها وكيفية حلها والتعلم منها والنمو من خلالها ويقول القديس مقاريوس الكبير "كما يُقشر الانسان بصلة فيزيل ورقة بعد ورقة وطبقة بعد أخرى الي ان يصل الي عمق الثمرة التي تبزغ منها نبتة تنمو متجهة نحو النور فانه وبنفس الطريقة ولو أن ذلك يثير عدم ارتياحنا يجب علينا ان نزيل طبقة تلو اخرى من عدم الرضا وعدم الصبر، والتهور والغضب والحسد، والكرب والقلق والكراهية، وتثبيط الهمة والاكتئاب قبل ان نصل إلي اعمق غرف قلبنا وعندما نصل لتلك الغرفة بالاضافة لهذا كله سنجد حية زاحفة قابعة في أمان اسمها محبة الذات والشفقة عليها، واذا نجحت في أقتناص هذه الحية، فانك تفتخر بذاتك انك صرت نقي أمام الله، لكن احذر مجدداً لانها لا تموت بل تبطئ عملها لذلك انحني بتواضع كخاطئ محتاج وتضرع الي الرب من اجل الخلاص من كل ما يربض بداخلك". علينا ان نعرف انفسنا ونتخلص من أنانيتنا ونصادق انفسنا ونربيها ونخلصها في ضوء روح الله القدوس وكلمة الله المقدسة لهذا قال :{  اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ. مَنْ يُحِبُّ نَفْسَهُ يُهْلِكُهَا، وَمَنْ يُبْغِضُ نَفْسَهُ فِي هذَا الْعَالَمِ يَحْفَظُهَا إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ.} (يو ١٢: ٢٤، ٢٥)

ثانياً- النفس البشرية بين الإيمان والعلم

معرفة النفس هي طريقنا إلى معرفة الله ويقول القديس أغسطينوس يقول: «دخلتُ إلى داخلي، فرأيتُ بنورك، أيها الرب، أن ما فوق نفسي هو أنت» أن الغوص في أعماق النفس من المفترض أن يقود إلى لقاء الله. والقديس الأنبا أنطونيوس الكبير علّم تلاميذه قائلاً: «اعرف نفسك، واعرف ضعفك، فتجد قوة الله معك». اما القديس غريغوريوس النزينزي فقد شبّه النفس بالمرآة، فإذا تنقّت بالتوبة انعكس فيها نور الله.

 وعند الآباء فحص النفس ليس غاية عقلية، بل مسيرة خلاصية تهدف إلى التوبة والاتحاد بالله. وعلينا ان نقيّم انفسنا في ضوء قيمتنا لدى الله الذي بذل ابنه الوحيد لكى لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية لذلك يقول القديس اغسطينوس " لا تياسوا من أنفسكم، انتم اناس خلقتم علي صورة الله، وذاك الذي خلقكم صار هو نفسه إنسان، لقد سفك دم الأبن الوحيد من أجلكم، لو تتفكّر في ضعفك فقط، فأنت تجعل نفسك رخيصة. قيموا  انفسكم بالثمن الذي دفع لأجلكم".

+ اما من المنظور النفسي فعلم النفس يركّز على أعماق الإنسان المخفية فيرى فرويد أن اللاوعي هو مخزن الرغبات المكبوتة، وأن التحليل النفسي يحرّر الإنسان من قلقه الداخلي. أما كارل يونغ فقدّم مفهوم "الظل" الذي يمثل الجوانب المخفية والمرفوضة في النفس، وأكد أن اكتمال الشخصية يتم عبر مواجهة هذا الظل ودمجه مع الوعي. كما اعتبر أن النفس تحمل "الذات العليا" التي تمثل اكتمال الكيان الإنساني. ويربط فيكتور فرانكل بين الصحة النفسية والبحث عن معنى الحياة، مؤكداً أن أعمق ما تحتاجه النفس هو إدراك هدف وجودها.

ثالثاً - التلاقي بين الروحي والنفسي

يرى الآباء أن  النفس البشرية هي ميدان صراع بين النعمة والخطيئة، النعمة اعطتنا البنوة والإيمان والملكوت وتعيننا لنكتشف أنفسنا ونجاهد وننتصر ضد شهوات الجسد ومحبة العالم وشهوة العيون وتعظم المعيشة. اما علماء النفس فيروا أن النفس هي ميدان صراع بين الدوافع الواعية واللاواعية. وكلاهما يرى أن معرفة النفس شرط للتحرر من ربط العبودية فعند الآباء التحرر من الخطيئة، وعند علماء النفس التحرر من القلق والاضطراب. والأدب الروحي والنفسي يساعد على وصف وأكتشاف هذه الأعماق فيشبّه الآباء النفس بالبحر، سطحه مضطرب، أما عمقه فهادئ حيث يسكن الله، كما ان النفس مرآه تتجلي فيها صورة الله وكلما صُقلت بالتوبة تتجلي فيها صورة الله. ويميز الكتاب بين أعمال الجسد والإنسان العتيق . وبين الإنسان الجديد المولود من الروح والذى يثبت في المسيح وينقاد لعمل الروح القدس داخله والذي يقوم بتنقية النفس ويجعلها تثمر بالجهاد وعمل النعمة { وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا: إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ. وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ  وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ.} (غل ٥: ١٦، ١٩-٢٣). ويشبّه يونغ النفس بمدينة فيها شوارع ظاهرة وأزقة خفية تمثل اللاوعي. وعلينا ان ندخل لأعماق النفس ونحن منقادين بالروح القدس لكي يرشدنا ويطهرنا وينقينا ويكشف لنا اعماقنا ويحررنا من كل قيود الخطية ويعمل فينا لنشترك معه في كل عمل صالح. فالارتحال لأعماق النفس هو مسيرة مزدوجة روحية ونفسية كطريق للتوبة والقداسة ومعرفة الله، والتحرر من الصراعات والبحث عن المعنى. وعندما يجتمع البُعدان، يكتشف الإنسان أن العمق الحقيقي لا يُدرك إلا إذا اجتمع النور الإلهي مع الوعي النفسي، ليصير الإنسان أكثر حرية ونضج وقرب من الله. فتذكر من أنت لاسيما عندما تشعر بالوحدة او الخوف او القلق او الضعف او حتى اليأس من الخطية. تذكر أنك ابناً لله ومدعو للقيامة مع المسيح القائل { أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا.}(يو ١١: ٢٥). لقد اعطاك الله ميزة الحديث والتحاور معه في اي وقت وهو قادر ان يفعل معنا اكثر مما نطلب أو نفتكر {وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، أَكْثَرَ جِدًّا مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا}(أف ٣: ٢٠)، أمين.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

(معرفة النفس وعلماء النفس المؤمنين ( ٤

 (معرفة النفس وعلماء النفس المؤمنين ( ٤

أولاً: معنى معرفة النفس


معرفة النفس ليست مجرد وعي بانفعالاتها وميولها او دوافعها بل تحليل للشخصية، وكرحلة روحية وعقلية تهدف إلى اكتشاف أعماق الإنسان الداخلية وإمكاناته، وطاقاته الكامنة. فمعرفة من أنا؟ من أين أتيت؟. والي أين أذهب؟ وما هو هدفي في الحياة؟. هذه المعرفة تساعد الإنسان أن يعيش حياة متكاملة منفتحة على الله والآخرين. إن للإنسان مفاهيم عديدة فهو في في بلده مواطن أو رقم قومى او حتى دافع ضرائب وفي دولة اخرى غريب وأجنبي او سائح  وللطبيب مريض، وللفيلسوف موضوع دراسة ولمكتب البريد عنوان وللسياسي ناخب وللنادى عضو ولله خليقته الذي منحها قدرة التفكير والمعرفة وحمل الأمانة وهو حر الارداة والأختيار وللمؤمن المسيحي أبن لله ومحبوب ووارث ومختار قبل تأسيس العالم والله يعرفه ويحبه { اُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا الآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ اللهِ! مِنْ أَجْلِ هذَا لاَ يَعْرِفُنَا الْعَالَمُ، لأَنَّهُ لاَ يَعْرِفُهُ. أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ.} (١ يوحنا ٣: ١، ٢). ان النفس هي صورة الله فينا، ومعرفتنا لها كوسيلة وغاية للاتحاد بالله. قال القديس أغسطينوس: "عرفت نفسي فوجدت الله، وعرفت الله فاكتشفت ذاتي.". اننا من خلال السيد المسيح أصبحنا ننتمي الي الله كابناء وقد اخذنا هويتنا الحقيقية منه ونجد انساننا الحق وتقديرنا لأنفسنا وهدف حياتنا وابديتنا في إقامة علاقة إيمانية حقة فيه ومن خلال كنيسته المقدسة وعندما نخدمة كنور وسفراء له. 

ثانياً: الرؤية النفسية المسيحية 

الإنسان كائن مركب من جسد ونفس وروح كعناصر متداخلة يصعب فصلها ويحتل العقل والشعور واللاشعور مكانه متداخلة فيه ويسعى الإنسان من خلال جهده لتحسين ظروفه وتحقيق رؤيته الافضل لذاته. وقد حاول علماء النفس المؤمنون بالمسيح التوفيق بين المنهج العلمي للتحليل النفسي وبين الإيمان المسيحي العميق. ومن أبرز النقاط التي ركزوا عليها:

 كارل يونغ (Carl Jung) -1

 لم يكن كارل لاهوتيًا بالمعنى الكنسي، إلا أن يونغ كان متأثراً بالروحانية المسيحية. يرى أن النفس البشرية تحمل "لاوعيًا جمعيًا" مليئًا بالرموز الدينية. واعتبر أن معرفة النفس لا تكتمل إلا من خلال الانفتاح على البعد الروحي. وأكد أن الإنسان إذا تجاهل الله فانه يعيش ممزقاً داخلياً.

 فيكتور فرانكل (Viktor Frankl) -2

مؤسس "العلاج بالمعنى" (Logotherapy). كان مؤمناً بضرورة البحث عن المعنى في الحياة حتى وسط الألم.

ويرى أن معرفة النفس تتحقق عندما يكتشف الإنسان رسالته التي أعطاها له الله. كما يؤكد أن الاكتفاء الذاتي النفسي غير ممكن دون الله، لأن الله هو مصدر المعنى.

 بول تورنييه (Paul Tournier) -3

طبيب نفسي مسيحي سويسري، كتب عن "الشخص الكامل". ويوضح تورنييه أن الإنسان لا يُشفى نفسياً إلا عندما يُفتح قلبه لله. ويرى أن معرفة النفس لا تنفصل عن معرفة الله، لأن الله هو الذي يكشف أعماقنا.

 جوردن ألبورت (Gordon Allport) -4

عالم نفس أمريكي مسيحي. يركز على "النضج الديني" كعامل أساسي في تكوين الشخصية السوية. ويرى أن الإيمان الحي بالمسيح يعطي اتزاناً داخلياً ويحرر الإنسان من القلق.

ثالثاً: خطوات عملية لمعرفة النفس في ضوء الفكر النفسي المسيحي

١ - الفحص الذاتي اليومي: أنه حساب النفس الذي يدعونا اليه التقليد المسيحي في صلاة نهاية اليوم، حيث يراجع الإنسان أفعاله ودوافعه ويطلب مغفرة خطاياه ويستمد النعمة والقوة من الله ليقوم بالاعمال الموكلة اليه.

٢- الانفتاح على الله بالصلاة: الصلاة تكشف أعماق النفس وتعطيها نور الحق وتفتح لها طاقات الإيمان وبها نتصل بمصدر النعمة وننال بركة وننتصر علي أعدائنا الروحيين ونبتعد عن التشتت وطياشة الفكر ونمسك بالحياة الأبدية التي دعانا اليها الله.

٣ - العلاج بالأعتراف : مشاركة الآخر بالاعتراف، الإرشاد الروحي، العلاج النفسي المسيحي يساعد على كشف الجروح الداخلية ومعرفة ضعفات النفس وكيفيه علاجها ومعرفة أمكاناتنا الروحية والنفسية ونمونا الروحى في المعرفة والنعمة.

٤- البحث عن المعنى: الإنسان المسيحي لا يكتفي بأن يعرف ذاته فقط، بل يسعى أن يحقق قصد الله من حياته. فلكل منا قيمة سامية في عين الله ومخلوق لأعمال صالحة ورسالة وهدف من حياته { لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَال صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا.} (أف ٢: ١٠)

٥- التوازن بين العلم والإيمان: المعرفة العلمية تقدم أدوات لفهم السلوك، لكن البعد الإيماني يكشف الهدف الأسمى ألا وهو  معرفة الله والثبات فيه والأتحاد به.

إن معرفة النفس عند علماء النفس المؤمنين بالمسيح ليست تحليلاً بارداً للشخصية، ولا غوصاً في أعماق اللاوعي فقط، بل هي رحلة روحية نحو الله. فكلما تعمق الإنسان في معرفة ذاته، اكتشف ضعفه واحتياجه، وفي الوقت نفسه رأى صورة الله فيه ودعوة الله له إلى النمو في المحبة والحرية. وكما يقول بول تورنييه: "إن أعظم اكتشاف للنفس البشرية ليس في أن تعرف أعماقها فقط، بل أن تدرك أنها معروفة ومحبوبة من الله.". نحن أبناء الله ومخلوقين لأعمال صالحة لنسلك فيها ومدعوين للملكوت فالسيد المسيح الذي بذل ذاته حباً بنا لم يدعونا عبيد بل ابناء وأن كنا ابناء فاننا ورثة الملكوت رغم ضيقات الزمان الحاضر التي لا تقاس بالمجد العتيد أن يستعلن فينا { إِذْ لَمْ تَأْخُذُوا رُوحَ الْعُبُودِيَّةِ أَيْضًا لِلْخَوْفِ، بَلْ أَخَذْتُمْ رُوحَ التَّبَنِّي الَّذِي بِهِ نَصْرُخُ: «يَا أَبَا الآبُ».  اَلرُّوحُ نَفْسُهُ أَيْضًا يَشْهَدُ لأَرْوَاحِنَا أَنَّنَا أَوْلاَدُ اللهِ.  فَإِنْ كُنَّا أَوْلاَدًا فَإِنَّنَا وَرَثَةٌ أَيْضًا، وَرَثَةُ اللهِ وَوَارِثُونَ مَعَ الْمَسِيحِ. إِنْ كُنَّا نَتَأَلَّمُ مَعَهُ لِكَيْ نَتَمَجَّدَ أَيْضًا مَعَهُ.} (رو ٨: ١٥-١٧). وها هو مسيحنا القدوس يطمئننا ويبدد خوفنا ويهبنا سلامه قائلاً : {لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ. }(لو ١٢: ٣٢)، أمين.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى