الهدوء والصمت في حياتنا الروحية-٢٠
في عالم تسوده الضوضاء الخارجية والداخلية ومع الأف القنوات الفضائية وانشغالات الحياة يحتاج الإنسان اكثر من اي وقت مضى إلي الهدوء والصمت كركيزة أساسية في الحياة الروحية والإنسانية، إذ يمثلان مناخًا داخليًا يساعد النفس على النمو، والتأمل، والدخول في شركة أعمق مع الله والأصغاء إلي صوت الله وعمل الروح القدس داخل النفس ولفهم افكارنا وعواطفنا والتحكم فيها وضبط حواسنا والتوجية السليم لميولنا والتحكم في كلامنا وتصرفاتنا.
في الهدوء نستطيع ترتيب اولوياتنا. فالهدوء والصمت عطية إلهية وضرورة نفسية للقضاء علي توترات الحياة اليومية والحصول علي السلام الداخلي.
أولًا: الهدوء والصمت في الكتاب المقدس
+ الهدوء يمنح قوة وخلاص..
عندما تهدأ النفس فانها تتخلص من ضوضاء العالم ويرجع الإنسان لنفسه وإلي الله { لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ قُدُّوسُ إِسْرَائِيلَ: «بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ».} (إش ٣٠: ١٥). هكذا يقول الحكيم أن الهدوء يسكن خطايا عظيمة { إِنْ صَعِدَتْ عَلَيْكَ رُوحُ الْمُتَسَلِّطِ، فَلاَ تَتْرُكْ مَكَانَكَ، لأَنَّ الْهُدُوءَ يُسَكِّنُ خَطَايَا عَظِيمَةً.} (جا ١٠: ٤). فالصمت وحتى الكلام الهادئ الوديع يأتي بنتائج افضل { كَلِمَاتُ الْحُكَمَاءِ تُسْمَعُ فِي الْهُدُوءِ، أَكْثَرَ مِنْ صُرَاخِ الْمُتَسَلِّطِ بَيْنَ الْجُهَّالِ.} (جا ٩: ١٧). يقول المرنم: «كُنْ مُطْمَئِنًّا قُدَّامَ الرَّبِّ وَانْتَظِرْهُ» (مز 37: 7). الهدوء هنا ليس سلبية ولا هروب من مواجهة المشاكل بل هو ثقة في تدبير الله وأنتظار لخلاصه وعمله في حياتنا وللتفكير والصلاة في هدوء لكى نستلهم من الله الحكمة والعمل الصالح.
+ الصمت طريق معرفة الله..
لقد أحب القديسين الصمت والهدوء لما راوه فيه من فوائد عظيمة. فالله يوصي شعبه قائلاً: { كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ}( مز١٠:٤٦). وقديما قال الرب لشعبه انهم يصمتون والرب يدافع عنهم {الرَّبُّ يُقَاتِلُ عَنْكُمْ وَأَنْتُمْ تَصْمُتُونَ.} (خر ١٤: ١٤). فالمعرفة الحقيقية لله تنمو في لحظات السكون بعيدًا عن الضجيج.
+ السيد المسيح نموذج للصمت الخلاصي
قدم لنا السيد المسيح في حياته نموذج للصمت والهدوء كما قيل عنه: { لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ». }(مت ١٢: ١٩-٢١). وأمام بيلاطس وهيرودس، التزم يسوع بالصمت (مت 27: 14). وكما تنبأ عنه اشعيا ايضا { كُلُّنَا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا. مِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى طَرِيقِهِ، وَالرَّبُّ وَضَعَ عَلَيْهِ إِثْمَ جَمِيعِنَا. ظُلِمَ أَمَّا هُوَ فَتَذَلَّلَ وَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ. كَشَاةٍ تُسَاقُ إِلَى الذَّبْحِ، وَكَنَعْجَةٍ صَامِتَةٍ أَمَامَ جَازِّيهَا فَلَمْ يَفْتَحْ فَاهُ.} (إش ٥٣: ٦، ٧). وأظهر لنا الرب يسوع قوة الصمت والهدوء حتى في أشد المواقف صعوبة ليُظهر قوة الصمت الذي يغلب الانفعال، ويكشف أن الصمت في المواقف الحرجة قد يكون تعبيرًا عن القوة لا عن الضعف.
ثانيًا: فكر آباء الكنيسة عن الصمت والهدوء
+ يقول القديس الأنبا أنطونيوس الكبير إن "الصمت يقود إلى النقاوة، والنقاوة تقود إلى المحبة، والمحبة تقود إلى الله". كما يدعو اولاده الروحيين الي " الهروب من النميمة وملازمة السكون، لان الصامت يكون مقامه عند الله في رتبة الملائكة" فالصمت وسيلة للتنقية الداخلية. أما القديس باسيليوس الكبير: يرى أن "كثرة الكلام لا تخلو من خطية، أمّا الصمت فيُثمر صلاة عميقة وتأملًا في أسرار الله". القديس أغسطينوس يقول أن الصمت ليس مجرد امتناع عن الكلام، بل هو توجيه الفكر والقلب نحو الله. وافرد القديس يوحنا السلمي درجة خاصة عن الصمت، ورأى أنه "أم الصلاة" و"حافظ الفكر". اما القديس ارسانيوس الحكيم فيقول " تكلمت كثيراً فندمت أما عن السكوت فلم اندم قط" ويقول القديس اشعياء المتوحد" أحبب السكوت اكثر من الكلام ، لان السكوت يجمع والكلام يبدد" ويقول القديس يوحنا التبايسى" بمداومة الهدوء تموت الافكار الطائشة والتذكارات الباطلة والآلام الباطلة، ويتقوى العقل بالسكون أكثر من اي أمر أخر وينجمع الي ذاته ويهدم الأفكار الشريرة". ويقول مار اسحاق السرياني " الصمت يُكسب الحكمة ويجمع ملكات الفكر إلي المعرفة".
ثالثًا: البعد النفسي للهدوء والصمت
علم النفس الحديث يوضح أن الصمت والهدوء لهما آثار مباشرة على الصحة النفسية: فهو يخفض التوتر والقلق: كما تؤكد دراسات أن فترات الصمت تساعد في تقليل مستوى الكورتيزول (هرمون التوتر) في الدم (Khalfa et al., 2003). ويودئ الي زيادة الوعي الذاتي فالصمت يفتح المجال للتأمل الذاتي، مما يعزز الوعي بالنفس ويساعد في اتخاذ قرارات أكثر حكمة (Brown & Ryan, 2003). كما يحفيز الصمت والهدوء الإبداع فتشير الابحاث إلى أن العزلة الهادئة تفتح المجال أمام المخ لتوليد أفكار جديدة (Long & Averill, 2003). والهدوء والصمت علاج نفسي فجلسات العلاج النفسي المعاصر (Mindfulness Therapy) تعتمد على ممارسات الصمت والتأمل كوسيلة لإعادة توازن الإنسان الداخلي.
رابعًا: التكامل بين الروحي والنفسي
+ الصمت في الفكر المسيحي ليس انسحاب سلبي من العالم، بل هو دخول في علاقة اعمق مع الله، مما يقوّي النفس ويهبها بصيرة روحية ونعمة وفي علم النفس الصمت يساعد على الشفاء من الاضطرابات النفسية، بينما الروحانية تضيف بعدًا وجوديًا أعمق فالصمت يقود إلى لقاء الله الذي يمنحنا السلام { لاَ تَهْتَمُّوا بِشَيْءٍ، بَلْ فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ. وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. }(في ٤: ٦، ٧).
خامسًا: تطبيقات عملية
+ تخصيص وقت يومي للصلاة الصامتة والتأمل في كلمة الله.
+ ممارسة "صلاة يسوع" (يا رب يسوع المسيح ارحمني أنا الخاطئ) في هدوء داخلي.
+ تقليل الانشغال بالهواتف والأجهزة لتوفير لحظات صمت حقيقي.
+ ممارسة تقنيات الاسترخاء والتنفس العميق كجسر بين الصمت الروحي والنفسي.
إن الهدوء والصمت عطيتان إلهيتان ووسيلتان للنمو الروحي والنفسي. فمن منظور الكتاب المقدس، هما دعوة إلى معرفة الله. ومن منظور الآباء، هما باب للنقاوة والصلاة. ومن منظور علم النفس، هما علاج للتوتر ومصدر للإبداع. وفي التكامل بين هذه الأبعاد، يصبح الصمت طريقًا للسلام الداخلي والشركة العميقة مع الله. أننا نصلي ونطلب من الله لنا وللجميع نعمة الهدوء وفضيلة الصمت للقاء مع النفس والله ولعلاقة اقوى وعشرة أعمق ومحبة تدوم ونربح انفسنا ومن حولنا لمعرفة الله والأتحاد به، أمين.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
* الكتاب المقدس
* أنطونيوس الكبير، رسائله واقواله
* يوحنا السلمي، سلم الفضائل.
* أغسطينوس، الاعترافات.
* Basil the Great, Ascetical Works.
* Brown, K. W., & Ryan, R. M. (2003). The benefits of being present: Mindfulness and its role in psychological well-being. Journal of Personality and Social Psychology, 84(4), 822–848.
* Khalfa, S., Bella, S. D., Roy, M., Peretz, I., & Lupien, S. J. (2003). Effects of relaxing music on salivary cortisol level after psychological stress. Annals of the New York Academy of Sciences, 999(1), 374–376.
* Long, C. R., & Averill, J. R. (2003). Solitude: An exploration of benefits of being alone. Journal for the Theory of Social Behaviour, 33(1), 21–44.


.jpg)







