محبة الله للنفس البشرية١ أولاً: محبة الله في الكتاب المقدس منذ بدء الخليقة أعلن الله محبته الفائقة للإنسان، إذ خلقنا على صورته ومثاله، وجعل للإنسان سلطان علي الخليقة كلها كتاج وسيداً لها { فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَهُمْ. وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: «أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ، وَأَخْضِعُوهَا، وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ».} (تك١: ٢٧، ٢٨). وأودع الله في الانسان نفخة حياة إلهية. هذه البداية تكشف أن الإنسان ليس مجرد مخلوق عابر، بل محبوب لله منذ الأزل، وموضوع عنايته ورعايته ورحمته { مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ. }(إر ٣١: ٣). الله يعلن رحمته بنا لأنه رحيم { إِلَهٌ رَحِيمٌ وَحَنَّانٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ}(مز 103: 8). ويُظهر الله محبته لنا لأن الله محبة { لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ.} (يو ٣: ١٦، ١٧). ومحبة الله لم تُعلَن بالكلام فقط، بل بالعمل والحق. فتجسد الله الكلمة وشاركنا طبيعتنا البشرية ليرفع النفس البشرية من موت الخطية إلى حياة البنوة لله والقيامةالمجيدة. ويؤكد الرسول بولس أن محبة الله هى قوة خلاصية { اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ - بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ - وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ، بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. }(أف ٢: ٤-٧). فالتجسد والفداء والخلاص هو ثمرة محبة الله الفائقة نحو البشر. ثانيًا: النفس البشرية في نظر الله النفس عند الله لها قيمة لا تُقدَّر بثمن، حتى أن المسيح نفسه يقول: { مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟} (مت 16: 26). وهنا يظهر بجلاء قيمة النفس البشرية كأعظم ما في العالم، لأن الله قد ختمها بختم صورته الإلهية. يقول القديس أثناسيوس الرسولي "لم يكن ممكنًا أن يهمل الله خليقته التي أحبها، بل كان لائقًا أن يجدّدها بالكلمة الذي به خُلقت." والقديس غريغوريوس النزينزي يتأمل في تجسد المسيح قائلًا: "لقد أحبنا حتى أنه صار ما نحن عليه، لكي يجعلنا ما هو عليه." أي أن المحبة بلغت قمتها في التجسد الإلهي وكما يقول القديس بولس الرسول { فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا، لِكَيْ يُبِيدَ بِالْمَوْتِ ذَاكَ الَّذِي لَهُ سُلْطَانُ الْمَوْتِ، أَيْ إِبْلِيسَ، وَيُعْتِقَ أُولئِكَ الَّذِينَ - خَوْفًا مِنَ الْمَوْتِ - كَانُوا جَمِيعًا كُلَّ حَيَاتِهِمْ تَحْتَ الْعُبُودِيَّةِ. }(عب ٢: ١٤، ١٥). ويؤكد القديس يوحنا الذهبي الفم أن محبة الله لا تتغير : "حتى وإن هربت النفس بعيدًا عنه، فإنه يلاحقها بالرحمة، كما فعل مع الابن الضال." أما القديس مقاريوس الكبير فيصف المحبة الإلهية بأنها نار سماوية: "النفس التي تتذوق محبة الله تلتهب شوقًا نحوه، ولا تعود تطيق أن تنفصل عنه." ثالثاً: أبعاد المحبة الإلهية للنفس + محبة خالقة: إذ أوجدنا من العدم وعندما سقط الإنسان دبر لنا الخلاص وجدد طبيعتنا بالمعمودية { إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا. }(٢ كو ٥: ١٧). + محبة أبوية : الله كأب صالح يهتم بنا فيقول { أَمْ أَيُّ إِنْسَانٍ مِنْكُمْ إِذَا سَأَلَهُ ابْنُهُ خُبْزًا، يُعْطِيهِ حَجَرًا؟ وَإِنْ سَأَلَهُ سَمَكَةً، يُعْطِيهِ حَيَّةً؟ فَإِنْ كُنْتُمْ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ تَعْرِفُونَ أَنْ تُعْطُوا أَوْلاَدَكُمْ عَطَايَا جَيِّدَةً، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ أَبُوكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ، يَهَبُ خَيْرَاتٍ لِلَّذِينَ يَسْأَلُونَهُ! }(مت ٧: ٩-١١). لقد دعانا الله ابناء وورثة للمكوت وافتدانا بالصليب { إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ، لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ، الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ بِدَمِهِ، غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ}(أف ١: ٥-٧) + محبة مربية: فهو يقودنا ويعلمنا وصاياه وكلامه ويعمل فينا بروحه القدوس. ويدعونا لنسلك كما يحق للإنجيل في مسيرة الكمال المسيحي التي اليها دعانا وفي حديث المسيح الوداعي يخاطب الآب قائلا{ أَيُّهَا الآبُ الْبَارُّ، إِنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ، وَهؤُلاَءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي.وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ». }(يو ١٧: ٢٥، ٢٦) + محبة أبدية: محبة الله لنا دائمة وقد كنا فى فكره قبل ان نخلق ويهتم بحياتنا علي الارض وأعد لنا ان نكون معه في السماء لهذا يدعونا إلى شركة المجد السماوي { خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي. وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي. }(يو١٠: ٢٧، ٢٨). وكما يقول القديس بطرس الرسول { مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ، أَنْتُمُ الَّذِينَ بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ.} (١ بط ١: ٣-٥) رابعاً : استجابتنا لمحبة الله محبة الله ليست مجرد عطية ننالها فقط بل هى دعوة لحياة جديدة نحياها مع الله، فالذي يختبر محبة الله عليه أن يتجاوب معها { نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلًا}(1 يو 4: 19). ولذلك يعلّم الآباء أن النفس لا تبلغ كمالها بدون أن تنغرس في محبة الله، وتصير "هيكلًا للروح القدس" (1 كو 6: 19). إن محبة الله للنفس البشرية هي سر وجودها وغايتها. فهي محبة أزلية أُعلنت في الخلق، وتجلّت في الفداء، وتستمر برعاية الله وعمل الروح القدس في النفس حتى تبلغ الملكوت. لذلك يدعونا الكتاب المقدس أن نحيا دائمًا في وعي عميق بهذه المحبة، فتتقد نفوسنا شوقًا إلى الله ونكون في عشرة حب معه ونثبت فيه وتتحول حياتنا كلها إلى تسبيح حيّ لمحبة الله الدائمة والأبدية. القمص أفرايم الأنبا بيشوى