التواضع وأهميته الروحية -٣٧
+ يُعدّ التواضع من الفضائل المسيحية التي تُشكل أساس الحياة الروحية السليمة. فهو ليس ضعف أو خنوع بل قوة شخصية داخلية نابعة من معرفة الإنسان لحقيقته أمام الله، ووعيه بمحدوديته، مع إدراك عظمة الله ومحبته. المتواضع يرفض التكبر والتفاخر ويعترف بضعفه ولا يلوم الغير او يدافع عن نفسه ويعتمد علي نعمة وقوة الله ولا يعتبر نفسه فوق الأخرين بل يقدرهم ويحترمهم مما ينمى العلاقات الاجتماعية ويبني جسور المحبة والتفاهم بين الناس. والمتواضع لا يرتئى فوق ما ينبغي بل يتعقل ويقدم غيره فينال نعمة وحكمة من الله والناس { تَأْتِي الْكِبْرِيَاءُ فَيَأْتِي الْهَوَانُ، وَمَعَ الْمُتَوَاضِعِينَ حِكْمَةٌ. }(ام ١١: ٢)
اولاً: التواضع في الكتاب المقدس
+ الله ينظر الي المتواضعين ويخلصهم وينالوا نعمة {لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الْعَلِيُّ الْمُرْتَفِعُ، سَاكِنُ الأَبَدِ، الْقُدُّوسُ اسْمُهُ: «فِي الْمَوْضِعِ الْمُرْتَفِعِ الْمُقَدَّسِ أَسْكُنُ، وَمَعَ الْمُنْسَحِقِ وَالْمُتَوَاضِعِ الرُّوحِ، لأُحْيِيَ رُوحَ الْمُتَوَاضِعِينَ، وَلأُحْيِيَ قَلْبَ الْمُنْسَحِقِينَ.} (إش ٥٧: ١٥) ويحذرنا الكتاب من الكبرياء { قَبْلَ الْكَسْرِ الْكِبْرِيَاءُ، وَقَبْلَ السُّقُوطِ تَشَامُخُ الرُّوحِ}(أم 16: 18). ويربط الوحي بين الكبرياء والسقوط، وبين التواضع والرفعة. التواضع شرط لقبول صلواتنا أمام الله { فَإِذَا تَوَاضَعَ شَعْبِي الَّذِينَ دُعِيَ اسْمِي عَلَيْهِمْ وَصَلَّوْا وَطَلَبُوا وَجْهِي، وَرَجَعُوا عَنْ طُرُقِهِمِ الرَّدِيةِ فَإِنَّنِي أَسْمَعُ مِنَ السَّمَاءِ وَأَغْفِرُ خَطِيَّتَهُمْ وَأُبْرِئُ أَرْضَهُمْ.} (٢ أخ ٧: ١٤). والتواضع من ثمارة مخافة الرب والكرامة { ثَمَرُ التَّوَاضُعِ مَخَافَةُ الرَّبِّ، غِنًى وَكَرَامَةٌ وَحَيَاةٌ} (أم 22: 4). ولهذا يقدم لنا النبي هذه الوصية الصالحة لكل زمان { قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعًا مَعَ إِلهِكَ.} (مى ٦: ٨)
+ وفي العهد الجديد يقدم السيد المسيح لنا نموذج للتواضع لنتعلم منه { تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ. اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. }(مت ١١: ٢٨، ٢٩). ولهذا يحثنا القديس بولس الرسول ان نتشبه بالمسيح في تواضعه {فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا، لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. }(في ٢: ٢، ٣، ٥-٨).
ثانياً: التواضع في فكر آباء الكنيسة
+ يقول القديس أنبا أنطونيوس الكبير أبو الرهبان ومعلّم التواضع العملي "رأيت جميع فخاخ العدو مبسوطة على الأرض، فتنهدت وقلت: من ينجو منها يا رب؟ فجاءني صوت يقول: المتواضع ينجو منها."
ويقول "إذا تذكرت خطاياك لا تتجاسر أن تدين أحدًا."
فالتواضع لديه هو تاج الفضائل "التواضع هو تاج الفضائل، به تُقتنى سائر الفضائل وتُحفظ."
+ أما القديس مقاريوس الكبير فيقول:
* "كن متضعًا كمن هو تحت كل خليقة، حينئذ يسكن فيك روح الله."
* "كما لا يستطيع الماء أن يستقر فوق جبل، كذلك لا يسكن الروح القدس في نفسٍ متكبرة."
* "إذا أردت أن ترى الله في قلبك، فاحفر فيه بئر التواضع."
+ ومن اقوال القديس الأنبا شنوده رئيس المتوحدين رائد النظام الرهباني في مصر العليا
* "من يظن في نفسه أنه عالم، فقد بدأ جهله."
* "احذر الكبرياء، لأن سقوط إبليس كان بسببها، أما التواضع فطريق الملائكة."
* "التواضع هو أن تعرف أنك تراب، وكل ما فيك هو من الله وليس منك."
* "من أراد أن يكون عظيمًا فليتعلم أولًا أن يكون صغيرًا في عيني نفسه."
+ والقديس الأنبا باخوميوس أب الشركة ومؤسس الحياة الرهبانية الجماعية يقول عن الأتضاع :
* "الطاعة تولد التواضع، والتواضع يولد السلام في القلب."
* "من أراد أن يخدم الله بحق، فليتضع كما اتضع المسيح وهو الإله الأزلي."
* "المتواضع هو إناء طاهر، يسكن فيه روح الله كما سكن في القديسة مريم."
ثالثاً: التواضع في الحياة الاجتماعية
التواضع لا يقتصر على العبادة والعلاقة مع الله، بل يمتد إلى العلاقات اليومية مع الناس. فالمتواضع يحيا في سلام مع الآخرين بعيداً عن النزاع. ويقبل الآخر كما هو، دون كبرياء أو إدانة. ويُسهم في بناء مجتمع سليم ومتماسك، حيث يسبق الاحترام المتبادل على المصالح الشخصية.
رابعاً: كيف نقتني التواضع؟
+ إن التامل والنظر الدائم إلى المسيح المتجسد والمصلوب والذي غسل أرجل تلاميذه يعلمنا التواضع، هكذا علم تلاميذه { فَدَعَاهُمْ يَسُوعُ وَقَالَ: «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤَسَاءَ الأُمَمِ يَسُودُونَهُمْ، وَالْعُظَمَاءَ يَتَسَلَّطُونَ عَلَيْهِمْ. فَلاَ يَكُونُ هكَذَا فِيكُمْ. بَلْ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ عَظِيمًا فَلْيَكُنْ لَكُمْ خَادِمًا، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِيكُمْ أَوَّلاً فَلْيَكُنْ لَكُمْ عَبْدًا، كَمَا أَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ لَمْ يَأْتِ لِيُخْدَمَ بَلْ لِيَخْدِمَ، وَلِيَبْذِلَ نَفْسَهُ فِدْيَةً عَنْ كَثِيرِينَ».} (متى ٢٠: ٢٥-٢٨).
+ الوعي بالضعف الشخصي، والاعتراف بالخطايا هكذا تواضع دانيال أمام الله واعترف بخطيته وشعبه فارسل له الله الملاك غبريال ليطمئنه { فَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَى اللهِ السَّيِّدِ طَالِبًا بِالصَّلاَةِ وَالتَّضَرُّعَاتِ، بِالصَّوْمِ وَالْمَسْحِ وَالرَّمَادِ. وَصَلَّيْتُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِي وَاعْتَرَفْتُ وَقُلْتُ: «أَيُّهَا الرَّبُّ الإِلهُ الْعَظِيمُ الْمَهُوبُ، حَافِظَ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ لِمُحِبِّيهِ وَحَافِظِي وَصَايَاهُ. أَخْطَأْنَا وَأَثِمْنَا وَعَمِلْنَا الشَّرَّ، وَتَمَرَّدْنَا وَحِدْنَا عَنْ وَصَايَاكَ وَعَنْ أَحْكَامِكَ.} (دا ٩: ٣-٥)
+ ممارسة الصلاة الدائمة مع طلب الاتضاع وطلب الرحمة كما العشار تجعل الله يرحمنا ويهبنا نعمة أمامه { وَأَمَّا الْعَشَّارُ فَوَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللّهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ. أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هذَا نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّرًا دُونَ ذَاكَ، لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَرْفَعُ نَفْسَهُ يَتَّضِعُ، وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يَرْتَفِعُ». }(لو ١٨: ١٣، ١٤). وخدمة الآخرين بروح المحبة، تكسر الأنا وتنمى فينا روح التواضع.
+ القراءة في سير القديسين الذين ساروا في طريق الاتضاع تعلمنا التواضع فالقديس الأنبا أنطونيوس: رغم مكانته كأب للرهبان، كان يستشير الرهبان الأصغر منه قائلاً: "الله يعلمني من أفواه الصغار." والقديس البابا كيرلس السادس: عاش حياة بسيطة جداً، يجلس مع الفقراء والبسطاء فوجد نعمة في عيني الله وصنع المعجزات بتواضعه.
+ إن التواضع هو تاج الفضائل المسيحية، وهو العلامة الحقيقية لاتباع المسيح. وبدونه، لا يمكن للنفس أن ترتقي روحياً أو تحيا في سلام مع الآخرين. فالمسيحية تدعونا أن نتعلم من المسيح المتواضع، وأن نجعل حياتنا شهادة حية للتواضع ومسكنة القلب في كل مواقف الحياة لنجد دالة أمام الله في اليوم الأخير.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
* الكتاب المقدس: العهد القديم والجديد.
* أقوال القديس أغسطينوس – "الاعترافات".
* القديس يوحنا الذهبي الفم – العظات على إنجيل متى.
* بستان الرهبان.
* الأنبا غريغوريوس، دراسات في الروحانية المسيحية.
* القمص تادرس يعقوب ملطي، سلسلة تفسير الكتاب المقدس.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق