ليبي يحكى كيف أكتشف مقرات مرقس الإنجيلي بعد بحث استمر ثلاثة أعوام
مائة كهف معلقة في الجبال
داود الحلاق قاص ليبي. قصصه ذات مذاق جبلي خاص، تستمد خصوصيتها من طبيعة الجبل الأخضر وناسه الذين يعايشون أطلال منطقة قورينا تلك «المدينة اليونانية التي كان يلهج بذكر اسمها حكماء العصور القديمة في ألف أغنية، أصبحت فقيرة بائسة وخرابا محزنا ».. كما جاء في نص لآخر شعرائها الكبار، سينسيوس القوريني، الذي كان شاهدا على انحدار مجدها الاغريقي التليد نحو عهد الهمجية الرومانية
وكان داود الحلاق شغوفا من خلال عمله الوظيفي كرئيس للقسم التراث بمؤسسة الآثار في مدينة شحات (الاسم الحالي لقورينا الاغريقية)، باكتشاف أعماق أودية الجبل الخضر وكهوفها المعروفة محليا باسم «المعاليق» لأنها محفورة في واجهات الجبال كملاذات آمنة يصعب ارتيادها وتصعب مراقبتها الا بشق الأنفس، ولقد لاذ بها الناس عبر ظروف مخيفة و خلال جوائح مهلكة، داهمت المنطقة في فترات متعددة عبر التاريخ، وبالرغم من وجود ظاهر لهذه الأوشاز (الكهوف) الشاهقة في رقعة تقدر بأكثر من 5000 آلاف كيلومتر مربع الا انه لا أحد من الباحثين قد تطرق لها بالدراسة من قبل
جهز داود الحلاق حملة استكشافية للكهوف الجبل الأخضر مكونة من فريق محلي متطوع، استمرت ثلاثة اعوام ما بين 1985 و1987، واثمرت عن اكتشاف حوالي مائة كهف معلق مجهول، صعدوا اليها من أسفل الجبل أو نزلوا اليها من قممه بواسطة الحبال والبكرات وغيرها من أدوات التسلق. وتمكنوا خلالها من جمع ثروة آثارية هائلة من اللقي التي تفصح عن طرائق عيش الليبيين القديمة، وقد شكلت متحفا تراثيا ثريا
اما اكتشاف كنيسة القديس الليبي مرقس ومقراته بالجبل الأخضر فقد، ظهرت كما تظهر الاكتشافات الكبرى، بمحض الصدفة خلال طيران الفريق في مروحية عبر اتساع أحد الأودية: شاهدنا مقرا محفورا في واجهة صخرية سحيقة، وكان اتساع المقر و تعدد أدواره يوحي بصورة جلية انه بقعة أثرية و انه يختلف عن ما ألفناه من أوشاز
وظل ذلك الوشز (الكهف) العملاق عالقا في ذاكرة داود الحلاق ولم يقرر مع الفريق الصعود اليه واكتشافه الا بعد عامين من مشاهدته من الجو فوق واد يعرف عند أهالي المنطقة وفي الخرائط الجغرافية باسم «وادي مرقس» دون ان يبحث عن سبب التسمية. وقد تم الصعود اليه في صيف العام 1987 بواسطة الحبال والبكرات ووسائل أخرى، ولكن قبل معرفة ما الذي اكتشف، يمثل السؤال
من هو مرقس الانجيلي؟، وما علاقته بالكهوف المعلقة في مجاهل الجبل الأخضر؟ راجع داود الحلاق مراجع تاريخية عن سيرة مرقس وقارن اسماء الامكنة الواردة فيها مع اسماء الامكنة التي عاش فيه القديس مرقس في الجبل الأخضر واجتهد في تقديم تصحيحات للاسماء المحرفة و التناقض في الأحداث كي يخلص الى ما يراه الرواية الأقرب الى الحقيقة التاريخية بشأن سيرة القديس مرقس الانجيلي
مرقس الانجيلي، ويعرف لاتينيا باسم سان ماركو الذي شيدت باسمه واحدة من أعظم كنائس العالم وهي كنيسة سان ماركو بالبندقية، هو صاحب أقدم الأناجيل وأحد الحواريين والرسل السبعين .. اسمه الأصلي سمعان ارسطوبوليس، الليبي المولد، الكنعاني الأصل، يرجح مولده في فترة مولد السيد المسيح عليه السلام .. عرف بألقاب متعددة، منها مرقس ويعني «المطرقة» ويقول المؤلف ان الرومان هم من أطلق عليه هذا اللقب لأنه يعني «المخرب» أو «الهادم» بسبب ثورته على الديانة الرومانية الوثنية، وهي الثورة التي ستعرضه للمطاردة ثم قتله وجز رأسه بسيوف الرومان .. ويسمى لابيوس أو لباوس ويعني «الليبي» والزيلوطي بمعنى «السريع المشي» حسبما يرجعها المؤلف الى الكلمة العربية «ألزّلط» التي تعني «المشي السريع» ويعتقد انها الكلمة المناسبة «لمرقس حتى أن حذاءه كان دائما يتمزق من كثرة السفر»، ويسمى ايضا الكنعاني نسبة الى جذوره الأصلية، وذكر القديس بولس اسمه (مرقس) في رسائله
ولد مرقس الانجيلي في الجبل الأخضر في قرية أبرتاتولس وتعرف اليوم باسم «برطلس» بالقرب من مدينة شحات الحالية «قورينا القديمة» في أسرة غنية تشتغل بالزراعة، لكنها اضطرت الى الهجرة الى فلسطين هربا من بطش الرومان .. وتقول الروايات، كما جاء في كتاب داود الحلاق، انه آمن بالسيد المسيح منذ كان صبيا وانه صلى طالبا العون منه لكي ينقذه ووالده من شر أسد ولبؤة اعترضا طريقهما، وعندما كتبت لهما السلامة آمن والده اسطوبوليس باعتبار ان صيت نبوءة المسيح كانت انتشرت منذ كان في المهد
ووالدته مريم، وهي، حسب البابا شنودة الثالث، إحدى المريمات اللاتي تبعن المسيح وكان بيتها مكانا لصلاة المؤمنين بالمسيح وللاجتماعات في عهد الرسل وكانت ذات اعتبار بين المسيحيين الأوئل .. كما انها هي من أشرف على تثقيف ابنها مرقس وتعليمه اللغات اليونانية واللاتينية والعبرية
في فلسطين آمن مرقس بتعاليم المسيح وانضم الى دعوته التي جهر بها وهو في الثلاثين من عمره
وتقول الروايات ان السيد المسيح عهد الى القديس مرقس بالتبشير بالدين الجديد بين بني قومه في الجبل الأخضر الذي يضم الليبيين الأصليين والاغريق واليهود .. كما بشر بالمسيحية بين المستعمرين الرومان ايضا، لكن الرومان اعتبروا دعوته تمردا على دياناتهم وسلطتهم .. وقبل عودته الى ليبيا مبشرا، قام بالتبشير، خلال رحلة العودة، بتعاليم المسيح في فلسطين وجبل لبنان وسورية وجزيرة قبرص وروما بمعية القديس بولس، ومصر، حتى وصوله الى موطنه في ليبيا
وفي مواجهة بطش الرومان لجأ مرقس واتباعه الى تأسيس أوشاز الاجراف في واجهات الانحدارات الجبلية الصخرية بمجاهل اودية الجبل الأخضر، كي تحصنهم ضد هجمات الرومان .. ثم اضطر مرقس الى اللجوء الى مصر العام 61 ميلادي، ثم رجع في عام 63 الى ليبيا وقضى بها سنتين اثنين، ويرجح انه كتب انجيله وهو أقدم الاناجيل في أوشاز الجبل الاخضر، في الوادي المعروف حتى اليوم بـ«وادي الانجيل» ثم رجع الى مصر ثانية حيث تم القبض عليه في الاسكندرية في عام 68 ميلادي قطع رأسه وجر جسده وسحل في طرقات الاسكندرية .. لكن دعوته انتشرت بين اقباط مصر الذين صاروا من اتباع الكنيسة المرقسية .. وعندما فتح عمرو بن العاص مصر خطب في المسلمين الفاتحين في يوم الجمعة الحزينة
إذهبوا بعون الله فازرعوا الأرض وكلوا من خيراتها ولبنها وقطعانها وصيدها، واطعموا جيادكم وحافظوا عليها فهي عدتكم ضد العدو وبها تنتصرون وتغنمون. واحفظوا عليها عهد جيرانكم الأقباط. ان أمير المؤمنين عمر قال لي: انه سمع رسول الله يقول: ان الله سيفتح عليكم مصر بعدي فاحفظوا عهد أقباطها فهم أهلكم وهم في حمايتكم
وعندما سرقت جمجمة القديس مرقس أمر عمرو بن العاص بالبحث عن الرأس المسروق واعاده الى بابا الأقباط ثم تبرع في ما بعد بمبلغ عشرة آلاف دينار لبناء كنيسة باسم القديس مرقس
كتاب «مرقس الانجيلي» رحلة استكشاف لفريق متطوع بقيادة أديب ترتبط كلماته بروح قورينا (اثينا افريقيا) وبالجبل وعبق الغابة ورائحة الأرض غب المطر الحجر والصخور والسفوح الجبلية المنحدرة تدريجيا حتى تلامس شاطئ البحر وتتالي الهضاب ومئات المدافن المنحوتة في المنحدرات الصخرية والتي لا مثيل لها في العالم
في تلك المنطقة التي لا تزال تنطوي على مجاهلها وأسرارها اكتشفت البعثة مقرات القديس مرقس الدينية في كل من (وادي مرقس) و(وادي الانجيل) لأول مرة العام 1، ولا يزال الكثير لم يكتشف .. ومن بين المقتنيات التي عثر عليها بقية تمثال راس الأسد وهو علامة مرقس الانجيلي وشعاره، ومقرات صخرية معلقة تعرف باسم «صرح مرقس» و«وشز الانجيل» وهي ترتفع عن مستوى سطح الأرض من عشرة امتار الى اربعين مترا .. وعثر على جذع الصليب المحفور عند مدخل «وشز الانجيل» محفورا بأسلوب علامة المسيحيين الأوائل، ومقرا دينيا يحوي ثمانية صلبان وأديرة ومعمودية عامة تعرف اليوم باسم عين سربلي
في «صرح مرقس» اكتشف كهف هائل متعدد الادوار والطبقات وغرفتين كبيرتين من بقايا غرفه العديدة المدمرة، ومعمودية للتطهر وصهريجا صخريا ضخما لحفظ المياه، ومعاصر زيوت وممرات ومداخل سرية ونقوش ورسومات دينية عن صلب المسيح و المسيحيين الأوائل. وفي أحد أدوار الكهف الضخم اكتشفت الحنية (اسقفية) المرقسية البدائية الأولى في فجر المسيحية كما ان هذا الموقع بالذات من عمل مرقس الانجيلي نفسه .. وبقاء بقية رأس أسد بجانب الحنية الرئيسية منحوت في أصل الصخر لدليل أكيد على ان هذه الحنية كانت مخصصة لمرقس الرسول الذي اتخذ الأسد علامة له، ثم ان التسمية لصيقة بالوادي (وادي مرقس) منذ القدم
ويبقى، كما يقول المؤلف: «بالرغم من اهمية هذه المواقع و البقع الأثرية التي اكتشفناها، الا اننا لا نستطيع استيفاءها حقا وبدقة .. لأن العمل يتطلب معاول المنقبين ويتطلب حفريات واستقصاءات علمية دقيقة لفرق من المتخصصين في أفرع عدة من علم الآثار». لا سيما وان المنطقة التي تنتشر فيها معاقل مرقس تقدر مساحتها بحوالي 2000 كيلومتر مربع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق