نص متحرك

♥†♥انا هو الراعي الصالح و الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف يو 10 : 11 ♥†♥ فيقيم الخراف عن يمينه و الجداء عن اليسار مت32:25 ♥†♥ فلما خرج يسوع راى جمعا كثيرا فتحنن عليهم اذ كانوا كخراف لا راعي لها فابتدا يعلمهم كثيرا مر 34:6 ♥†♥ و اما الذي يدخل من الباب فهو راعي الخراف يو 2:10 ♥†♥

الأربعاء، 3 ديسمبر 2025

البساطة المقترنة بالحكمة - ٤٨

 البساطة المقترنة بالحكمة - ٤٨


تُعَدُّ البساطة إحدى الفضائل المسيحية الأصيلة التي تدعو إلى عيش الحياة بلا تعقيد أو التواء وبدون رياء، في صدقٍ وصفاء القلب، ولكن البساطة تحتاج إلي الحكمة حتى لا تتحول إلى سذاجة أو سطحية. فالبساطة الإنجيلية ليست ضعفًا في الفكر، بل هي نقاوة القلب المنفتح على الله والناس، والممتزج بالفطنة الروحية والتمييز.

اولاً: البساطة في الكتاب المقدس وفكر الاباء

* يدعونا الكتاب المقدس للبساطة { سيروا في بساطة، وامشوا في أمان}(أم ١٠:٩).  ويُعلّم أن تقترن البساطة بالحكمة فبدون حكمة قد ينخدع { اللبسيط يصدق كل كلمة، أما الذكي فينتبه إلى خطواته}(أم ١٤:١٥). 

* السيد المسيح اوصانا بالبساطة المقرونة بالحكمة { كونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام ( مت ١٠:١٦). أي نجمع بين النقاوة والحكمة والتمييز. ويريد منا ان نكون بسطاء نبتعد عن الشر { سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا،  وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!} (مت ٦: ٢٢، ٢٣)

* ولهذا فان القديس بولس الرسول يمدح المؤمنين في كورنثوس قائلاً: { أفرح أنكم بسطاء في الشر، ولكن حكماء في الخير}( ١كو ١٤:٢٠). ومدح الرسول البساطة والاخلاص في التصرف المملوء نعمة من الله {لأَنَّ فَخْرَنَا هُوَ هذَا: شَهَادَةُ ضَمِيرِنَا أَنَّنَا فِي بَسَاطَةٍ وَإِخْلاَصِ اللهِ، لاَ فِي حِكْمَةٍ جَسَدِيَّةٍ بَلْ فِي نِعْمَةِ اللهِ، تَصَرَّفْنَا فِي الْعَالَمِ، وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ. (٢ كو ١: ١٢) ولهذا يدعونا للحكمة لئلا يفسد ابليس بساطتنا {وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ.} (٢ كو ١١: ٣).

 + البساطة في فكر آباء الكنيسة

* يطلب منا القديس الأنبا أنطونيوس البساطة الممزوجة بالحكمة " البساطة تحفظ الإنسان في محبة الله، والحكمة تحفظ المؤمن من خداع الشياطين".

* ويري القديس يوحنا الذهبي الفم أن البساطة هي “شفافية القلب” أي العيش بلا نفاق أو التواء، لكنها لا تعني السذاجة بل “التمييز مع النقاوة”.

* ويميز القديس أغسطينوس بين البساطة المسيحية والسذاجة قائلاً: “البساطة فضيلة، أما السذاجة فجهل، والله لم يدعنا إلى الجهل بل إلى نور الحكمة.”

* ويؤكد القديس باسيليوس الكبير أن البساطة تجعل الإنسان محبوبًا عند الله والناس لأنها صورة من صفاء القلب.

ثانياً: البساطة في علم النفس البشري

علم النفس يفرّق بين البساطة الصحية (Healthy simplicity) التى هي العيش في وضوح داخلي، والتعبير الصادق عن الذات، وتعكس شخصية متزنة قادرة على اتخاذ قرارات مباشرة بلا التواء. والسذاجة (Naivety). التى هي نقص في الوعي أو الفطنة، تجعل الإنسان عرضة للاستغلال. فالبساطة الناضجة ترتبط بالصدق، والقدرة على بناء علاقات إنسانية أصيلة خالية من التعقيد النفسي والعقد، وترتبط بما يسميه علماء النفس "الذكاء العاطفي" حيث يجمع الإنسان بين القلب البسيط والعقل الواعي.

ثالثاً: نماذج من حياة القديسين

* القديس الأنبا باخوميوس: بالرغم من بساطته الفائقة في التعامل مع الرهبان، كان حكيمًا في تنظيم الشركة الرهبانية الأولى.

* القديس البابا كيرلس السادس: معروف بصلاته البسيطة العميقة، وفي نفس الوقت تميّز بحكمة روحية جعلته مرشدًا روحياً للشعب يتمتع بروحانية وشفافية.

رابعاً: كيف نحيا البساطة بلا تعقيد ولا سذاجة؟

* الاتحاد بالمسيح: أن تكون حياتنا مخفية في المسيح، فنعيش بصفاء القلب { مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. (غلا ٢: ٢٠).

* الصدق مع الذات والآخرين: لا نخفي نوايانا بل نتعامل بنقاء. { لأَنَّ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ الْحَيَاةَ وَيَرَى أَيَّامًا صَالِحَةً، فَلْيَكْفُفْ لِسَانَهُ عَنِ الشَّرِّ وَشَفَتَيْهِ أَنْ تَتَكَلَّمَا بِالْمَكْرِ، }(١ بط ٣: ١٠)

* التمييز الروحي: الصلاة وقراءة الكتاب المقدس تعطيان الإنسان بصيرة لئلا تخدعه المظاهر.

* التواضع: البسيط الحقيقي لا يتكبر ولا يتصنع.

* الابتعاد عن التعقيد النفسي: عدم تحميل الأمور أكثر مما تحتمل.

* الحكمة في التعامل: استخدام العقل والتمييز في مواجهة المواقف، فلا نسمح لاحد باستغلال بساطتنا في المسيح من أجل خداعنا بالشر والمكر.

خامساً: أشكال وأنواع البساطة في حياتنا

* البساطة في الفكر: التفكير المباشر بلا تعقيد زائد.

* البساطة في العلاقات: التعامل بمحبة وصدق بعيدًا عن النفاق.

* البساطة في العبادة: الصلاة بكلمات قليلة لكن من قلب صادق.

* البساطة في العطاء: تقديم المحبة والخير بلا حساب أو انتظار مقابل.

* البساطة في المظهر والحياة اليومية: الاكتفاء بما هو ضروري دون تكلف أو تظاهر.

البساطة المقترنة بالحكمة هي الطريق الإنجيلي للحياة المسيحية المتوازنة بقلب نقي بلا رياء، وعقل واعٍ مميّز. البساطة هي فضيلة تجعل الإنسان قريبًا من الله، محبوبًا من الناس، وسعيدًا في ذاته. فمن يسلك بهذه الروح يعيش حرًا من التعقيد والعقد، وفي الوقت ذاته محميًا من السذاجة والانخداع.

القمص أفرايم الانبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس 

* يوحنا ذهبي الفم، عظات على إنجيل متى.

* القديس أغسطينوس، الاعترافات.

* باسيليوس الكبير، رسائل روحية.

* أنطونيوس الكبير، أقوال الآباء.

* وليم جيمس، مبادئ علم النفس.

* كارل يونغ، البنية النفسية للإنسان.

الصلاح والاستقامة - ٤٧

 الصلاح والاستقامة - ٤٧ 


يُعدّ الصلاح والاستقامة من أسمى القيم الروحية والأخلاقية التي دعا إليها الكتاب المقدس وأكد عليها آباء الكنيسة الأرثوذكسية. فهما يعكسان صورة الله في الإنسان، ويقودا المؤمن إلى حياة القداسة والشركة مع الله. وقد شغلت هذه الفضائل حيّزاً كبيراً حتى في الفلسفة القديمة، وفي علم النفس الحديث يربط ما بين الاستقامة والصحة والنضج الإنساني.

اولاً: الصلاح والاستقامة في الكتاب المقدس

+ الصلاح هو ثمرة الروح القدس (غلا 5: 22)، ويشير إلى الميل العميق لفعل الخير والرحمة والإحسان.

ويصف الكتاب المقدس الله بانه صالح ومستقيم لذلك يعلمنا طرقه { الرب صالح ومستقيم لذلك يعلّم الخطاة الطريق} (مز 25: 8). والصلاح مرتبط بالبر والمحبة، ويظهر في أفعال عملية مثل الرحمة والعدل والتقوى.

+ أما الاستقامة تعني النزاهة، الثبات على الحق، ورفض المكر والاعوجاج. يقول الكتاب أن منهج المستقيمين هو الحيدان عن الشر { مَنْهَجُ الْمُسْتَقِيمِينَ الْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ. حَافِظٌ نَفْسَهُ حَافِظٌ طَرِيقَهُ. }(ام ١٦: ١٧) وبر المستقيمين ينجيهم {بِرُّ الْمُسْتَقِيمِينَ يُنَجِّيهِمْ، أَمَّا الْغَادِرُونَ فَيُؤْخَذُونَ بِفَسَادِهِمْ.} (ام ١١: ٦). الاستقامة تُعبّر عن وحدة الفكر والقلب مع العمل، بحيث أن يكون الإنسان صادقاً مع الله ومع ذاته ومع الآخرين.

ثانياً: الصلاح والاستقامة في فكر الآباء 

* يؤكد القديس أثناسيوس أن الصلاح ليس مجرد فضيلة أخلاقية بل هو اتحاد بالله مصدر كل صلاح.

* ويربط القديس يوحنا الذهبي الفم بين الصلاح والرحمة العملية، قائلاً: «لا يُحسب الإنسان صالحاً إذا اكتفى بالفضائل الداخلية، بل إذا ترجمت فضائله إلى خدمة الفقراء والمحتاجين».

* ويشدد الانبا أنطونيوس الكبير على الاستقامة الداخلية قائلاً: «كما أن الثوب الأبيض النقي يُظهر بقعة صغيرة، هكذا القلب المستقيم لا يحتمل خداعاً ولو بسيطاً». وقد ربط آباء البرية بين الاستقامة والبساطة فالإنسان المستقيم لا يعرف المكر أو الازدواجية.

ثالثاً: الصلاح والاستقامة في الفلسفة وعلم النفس

* في الفلاسفة اليونان رأى أفلاطون أن الصلاح هو "الخير الأسمى" وهو غاية الفلسفة، وأن النفس الفاضلة تميل بطبعها إلى الخير. وركز أرسطو على "الفضيلة الوسطية"، معتبراً أن الصلاح يعني العيش بحسب العقل والفضيلة.

* الفكر المسيحي الفلسفي للقديس أوغسطينوس وتوما الأكويني يدمج بين الحكمة والإعلان الإلهي، مؤكداً أن الله هو الخير المطلق، وأن الاستقامة هي مطابقة الإرادة البشرية لإرادة الله.

* وفي علم النفس الإيجابي، تُعتبر النزاهة والاستقامة من أهم مقومات الشخصية الناضجة والمتوازنة. فيرى كارل روجرز أن "التطابق" بين الداخل والخارج أساس الصحة النفسية، وهو ما يوازي الاستقامة الروحية. وتربط أبحاث السلوك الإيجابي بين الصلاح ومستويات أعلى من السعادة والرضا النفسي، وتظهر أن الأشخاص الصالحين أكثر قدرة على بناء علاقات إنسانية مستقرة.

رابعاً: أمثلة لرجال الله القديسين المشهورين بالصلاح والاستقامة

* أيوب الصديق: شهد عنه الكتاب أنه «كان كاملاً ومستقيماً يتقي الله ويحيد عن الشر» (أي ١:١).

* يوسف الصديق: مثال للاستقامة في نقاوة القلب ورفض الخطية، رغم التجارب القاسية.

* القديس أثناسيوس الرسولي: قاوم البدع والأريوسية بثبات واستقامة، حتى نُفي مرات عديدة لكنه لم يحِد عن الإيمان.

خامساً: كيف ننمو في الصلاح والاستقامة؟

* الثبات في المسيح: بالاتحاد بالمسيح من خلال الصلاة والأسرار نقتني الصلاح الذي هو عطية الروح القدس.

* التمسك بالوصية: كلمة الله هي النور الهادي لطريق الاستقامة (مز ١٠٥:١١٩). 

* الجهاد ضد الذات: رفض الأنانية والبعد عن الشر والالتصاق بالخير والبذل يقود الي الاستقامة.

* الأعمال الصالحة: العطاء، خدمة الآخرين، الرحمة، ومساندة المظلومين.

* الإرشاد الروحي: الخضوع لتلمذة روحية على يد مرشد حكيم يساعد على النمو المتوازن.

* التدرّب النفسي: بالوعي الذاتي وضبط النفس وتنمية النزاهة في الفكر والقرار.

الصلاح والاستقامة ليسا مجرد فضيلتين أخلاقيتين، بل هما تعبير عن الاتحاد بالله والعيش في حضرته. ومن خلالهما يشهد المسيحي للعالم أن النور أقوى من الظلمة، وأن الحياة مع الله هي حياة الحق والخير.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع 

* الكتاب المقدس 

* أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.

* يوحنا الذهبي الفم، العظة على التطويبات.

* أنطونيوس الكبير، أقوال الآباء (Apophthegmata Patrum).

* القمص تادرس يعقوب ملطي، تفسير أسفار الكتاب المقدس.

* يوسف حبيب، آباء البرية.

* Plato, The Republic.

* Aristotle, Nicomachean Ethics.

* Carl Rogers, On Becoming a Person.

* Martin Seligman, Authentic Happiness.

الجمال ومفهومه الروحي - ٤٦

 الجمال ومفهومه الروحي - ٤٦

للجمال في الكتاب المقدس مفهوم روحي عميق فهو ليس فقط في الطبيعة أو في الجسد، بل في الروح والأعمال فيتجاوز المظهر الخارجي ليصل إلى الجوهر، حيث يرى الفكر المسيحي أن الجمال الحقيقي هو انعكاس لمجد الله وصورته في الإنسان والخليقة. 


أولاً:  مفهوم الجمال في الكتاب المقدس وفكر الآباء 

١- الجمال في الله نفسه

 إن الله هو مصدر كل جمال، لأنه "البارع في جماله" (مز 45: 2). كل بهاء في الخليقة هو ظل ضعيف يعكس { بهاء مجده ورسم جوهره} (عب 1: 3). لذلك فالمسيحية ترى أن كل جمال أرضي يقود العين والعقل إلى إدراك الجمال الإلهي غير المحدود.

٢- الجمال في الإنسان

 خُلق الله الإنسان على {صورة الله ومثاله"} (تك 1: 27). وبعد أن خلق الله الإنسان { رَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا. }(تك ١: ٣١) وبالتالي فالانسان  يحمل في داخله البهاء الإلهي. وجماله لا يُقاس بالمظهر الجسدي، بل بنقاوة القلب: {الحُسن غِش والجمال باطل، أما المرأة المتقية الرب فهي تُمدح} (أم 31: 30). الفضائل الروحية مثل المحبة، الوداعة، الطهارة، والقداسة  هي التي تُكسب الإنسان الحسن الحقيقي والبهاء الروحي. لذلك يوصى الكتاب النساء بالاهتمام بجمال ووداعة الروح {وَلاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ الزِّينَةَ الْخَارِجِيَّةَ، مِنْ ضَفْرِ الشَّعْرِ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبْسِ الثِّيَابِ، بَلْ إِنْسَانَ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ فِي الْعَدِيمَةِ الْفَسَادِ، زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ، الَّذِي هُوَ قُدَّامَ اللهِ كَثِيرُ الثَّمَنِ.} (١ بط ٣: ٣، ٤).

٣- الجمال في الخليقة

 الخليقة كلها تشهد لمجد الله وبهائه { السماوات تُحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه}(مزمور 19: 1). فعندما نرى الأشجار والورود في جمالها وزنابق الحق في رونها نسبح الله الخالق الأعظم { وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. }(مت ٦: ٢٨، ٢٩). فالطبيعة بجمالها وتناسقها ترفع فكر الإنسان نحو خالقها، فتجعله يسبح عظمة الله. المسيحية تفرّق بين التمتع بالجمال الطبيعي وبين عبادة المخلوقات، فهي تدعو إلى النظر عبر الجمال لا التوقف عنده.

٤- البهاء في المسيح

ربنا يسوع المسيح هو الأبرع جمال في محبته وفدائه وبهائه { أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الأَبَدِ.} (مز ٤٥: ٢). وفي التجلي ظهر مجد المسيح حيث { أضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور} (مت 17: 2). بهاء المسيح هو المثال الأعلى للجمال الروحي الذي يُنير لنا الطريق ونعيش معه مذاقة الملكوت.

٥- أقوال الآباء عن الجمال

* يقول القديس اثناسيوس الرسولى" المسيح هو بهاء الآب، الذى في نوره نعاين النور."

* ويقول القديس أغسطينوس: "تأخرت في محبتك، أيها الجمال القديم الجديد."

* اما القديس باسيليوس الكبير فيقول "الجمال الذي في الخليقة هو دعوة إلى معرفة الخالق."

ثانياً : المفهوم النفسي والروحي

+ يربط علم النفس المسيحي بين الجمال والانسجام الداخلي، فالشخص المتصالح مع الله ونفسه يظهر في سلامه ووجهه إشراق خاص. والجمال الداخلي يولد السعادة الحقيقية، بينما الاعتماد فقط على المظاهر يقود إلى الفراغ وعدم الرضا. والبهاء الروحي يعطي للإنسان حضوراً مشرقاً حتى إن لم يكن مميزاً في ملامحه الجسدية. فالجمال هو إشراق الله في الإنسان والخليقة، والحُسن هو فضيلة القلب النقي، والبهاء هو مجد الله الذي ينعكس على حياة المؤمن. المظهر الخارجي قد يزول، أما الجمال الروحي فهو أبدي، يكتمل في السماء حيث يعاين المؤمنون وجه الله في مجده.

+ يوضح علم النفس الحديث يوضح أن إدراك الجمال له دور مهم في رفع الحالة النفسية فالنظر إلى الطبيعة أو الفن الجميل يخفّض التوتر ويزيد الشعور بالسلام الداخلي. والتأمل في مظاهر الجمال حولنا ينمي القيم الإيجابية ويربط الإنسان بالمشاعر السامية كالامتنان والرحمة. ويعزز العلاقات مشاركة لحظات الجمال مع الآخرين كالإعجاب بمشهد طبيعي أو موسيقى يقوّي الروابط الإنسانية. كما يرى علم النفس الإيجابي أن "حس الجمال" من مصادر السعادة والرضا بالحياة، وهو مرتبط بالقدرة على التأمل والشكر.

+ عندما يعيش الإنسان منفتحًا على الجمال الروحي والإنساني، يرتفع فوق هموم الحياة ويقترب من مصدر السعادة الحقيقية. الجمال يحرر القلب من الأنانية، ويفتحه على الحب والعطاء، لأنه يعكس نور الله في النفس.

ثالثاً:  جمال السماء كما يصفه سفر الرؤيا

 يقدّم سفر الرؤيا لوحة سماوية مملوءة بالجمال الفائق:

عن السماء { المدينة... نقية كالبلور} (رؤ 21: 11). 

{ وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا.} (رؤ٢١: ٢). { وكان بناء سورها يشبه يشبًا، والمدينة ذهب نقي شبه زجاج نقي}(رؤ 21: 18). { وكان أساس السور مزينًا بكل حجر كريم} (رؤ 21: 19). { وشارع المدينة ذهب نقي كزجاج شفاف} (رؤ 21: 21). هذا الوصف لا يركّز على الجمال المادي فقط، بل على الجمال الروحي والقداسة حيث لا موت ولا وجع { وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ». وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: «هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا!». وَقَالَ لِيَ: «اكْتُبْ: فَإِنَّ هذِهِ الأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ». }(رؤ ٢١: ٤، ٥). السماء كمال الجمال لأنها حضور الله الدائم { هوذا مسكن الله مع الناس} (رؤ 21: 3).{ { أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ. وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُ هذَا الرَّجَاءُ بِهِ، يُطَهِّرُ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ طَاهِرٌ.}(١ يو ٣: ٢، ٣)

+ الجمال في الفكر المسيحي ليس مجرد زينة خارجية، بل هو إشراق حضور الله في الخليقة والإنسان. الكتاب المقدس والآباء وعلم النفس يتفقون على أن الجمال يرفع النفس ويمنحها السعادة الحقيقية. والجمال السماوي هو الامتلاء النهائي حيث نعاين الله وجهًا لوجه، ونحيا في نور جماله الأبدي.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس

* القديس أغسطينوس، الاعترافات.

* القديس باسيليوس الكبير، عن الروح القدس.

* يوحنا ذهبي الفم، العظات على إنجيل متى.

* أنطونيوس فكري، تفسير سفر الرؤيا.

* C.S. Lewis, The Weight of Glory.

* Thomas Aquinas, Summa Theologica (عن الجمال والخير).

* Positive Psychology Journals on beauty and well-being.

دعوة للكمال المسيحي- ٤٥

 دعوة للكمال المسيحي- ٤٥

أولاً: معنى الكمال المسيحي


الكمال المسيحي لا يعني العصمة من الخطأ أو الخلو من الضعف البشري، بل يشير إلى حالة النضوج الروحي والامتلاء بالمحبة الإلهية التي بها يصير الإنسان صورة حيّة للمسيح. وقد دعانا الرب يسوع للكمال { فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل} (مت 5: 48). هذه الدعوة هي أساس مفهوم الكمال في المسيحية، فهي ليست مجرد وصية أخلاقية، بل دعوة للاتحاد بالله الذي هو الكمال ذاته.

+ البعد اللغوي : كلمة "كامل" في الأصل اليوناني (Τέλειος – Teleios) تعني "تام، ناضج، قد بلغ غايته". فهي تشير إلى اكتمال الغاية أكثر من الكمال المطلق. وبالتالي، الكمال المسيحي هو السير نحو الامتلاء في المسيح. وترجع أهمية الكمال المسيحي

إلي حفظ صورة الله في الإنسان الذي خُلق على صورة الله ومثاله (تك 1: 26)، والكمال هو استعادة لهذه الصورة التي شُوّهت بالخطية. والحاجة الي التشبه بالمسيح فغاية الحياة المسيحية هي أن { نتغير إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد}(2 كو 3: 18).

والكمال غاية خلاصنا وليس هدفاً ثانوياً، بل هو جوهر الخلاص: {هذا هو مشيئة الله قداستكم}(1 تس 4: 3).

الكمال يقود إلى انسجام النفس مع الله والآخرين، فيصير القلب مستودع محبة وشهادة للعالم فالقديسون الكاملون صاروا نوراً للعالم (مت 5: 14-16) ، فجذبت حياتهم الكثيرين للإيمان.

ثانياً: وسائل الوصول إلى الكمال المسيحي

1. النعمة الإلهية

الكمال نعمة لا يقتنيها الإنسان بمجرد جهده. يقول القديس أثناسيوس الرسولي:  "الله صار إنساناً لكي يصير الإنسان إلهياً بالنعمة". فالنعمة ترفع الطبيعة البشرية وتثبتها في الله.

2. الجهاد الروحي

مع النعمة، مطلوب من الإنسان أن يجاهد:

* بالصلاة الدائمة (1 تس 5: 17).

* بممارسة الأسرار، خاصة الإفخارستيا التي توحّدنا بالمسيح الكامل.

* بالصوم وضبط النفس، كما أوصى الرب (متى 6).

3. المحبة الكاملة

المحبة هي تاج الكمال: { وَعَلَى جَمِيعِ هذِهِ الْبَسُوا الْمَحَبَّةَ الَّتِي هِيَ رِبَاطُ الْكَمَالِ.} (كو ٣: ١٤). ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: "غاية كل الوصايا هي المحبة، فمن بلغها فقد بلغ الكمال".

4. الاتضاع

الطريق إلى الكمال يمر عبر الاتضاع. قال القديس أنطونيوس الكبير: "رأيت جميع فخاخ العدو منتشرة على الأرض، فتنهدت وقلت: من ينجو منها؟ فأجابني صوت: المتضعون ينجون".

5. القدوة وسير القديسين

سير الآباء القديسين هي مدارس عملية للكمال:

* القديس أنطونيوس الكبير: بلغ الكمال بالنسك والوحدة والصلاة المستمرة.

* القديس أثناسيوس: حفظ الإيمان في مواجهة الهرطقات، مُظهراً أن الكمال هو الثبات في الحق.

* القديس مكاريوس الكبير: عاش حياة الطهارة الداخلية، وقال: "القلب الذي قد صار مسكناً لله، هذا هو الإنسان الكامل".

* القديس أغسطينوس: مثال للتوبة التي تقود إلى الكمال، إذ انتقل من حياة الخطية إلى حياة الاتحاد بالمسيح.

ثالثاً: الكمال المسيحي بين الحاضر والأبدية

الكمال المسيحي يبدأ هنا على الأرض، لكنه لا يُستكمل إلا في الأبدية: { الذي ابتدأ فيكم عملاً صالحاً هو يكمل إلى يوم يسوع المسيح} (في 1: 6).

يؤكد القديس غريغوريوس النيسي أن الكمال ليس حالة جامدة، بل هو حركة دائمة نحو الله: "الكمال الحقيقي هو في التقدم المستمر بلا توقف في محبة الله".

+ الكمال المسيحي ليس مطلباً مستحيلاً، بل هو دعوة إلهية إلى حياة الشركة مع الله، تتحقق بالنعمة والجهاد الروحي معاً. ومن خلال المحبة، التواضع، والاقتداء بالقديسين، يسير المؤمن في طريق الكمال، حتى يكتمل في المسيح يسوع الذي هو "رأس كل كمال" (كو 2: 10).

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس 

* القديس أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.

* القديس أنطونيوس الكبير، أقوال الآباء البرية.

* القديس يوحنا الذهبي الفم، العظة على متى.

* القديس أغسطينوس، الاعترافات.

* القديس غريغوريوس النيسي، حياة موسى.

* القمص تادرس يعقوب ملطي، تفسير الكتاب المقدس.

* الأنبا غريغوريوس، اللاهوت الروحي.

القداسة وأهميتها- ٤٤

 القداسة وأهميتها- ٤٤

القداسة هي دعوة عظمى التي يوجّهها الله لكل إنسان: { كونوا قديسين لأني أنا قدوس} (1بط 1: 15–16؛ لا 19: 2). فالجميع مدعو لحياة القداسة فهى ليس امتياز لفئة محدودة من الخدام بل هي الطريق الطبيعي الذي يسلكه كل مؤمن في المسيح ليصير { هيكلاً للروح القدس}(1كو 6: 19). والمعني اللغوي للقداسة" قدّس" يعني: ميَّز، نزّه، كرّس. فعندما قال الرب يسوع المسيح {وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ. }(يو ١٧: ١٩). تعني انه كرس ذاته من أجلنا وفي العبرية كلمة קדש (قَدَش) تشير إلى الانفصال عن الدنس والتخصيص لله. وفي اليونانية كلمة ἅγιος تعني مقدس، مكرّس للرب. إذاً القداسة ليست فقط «طهارة» سلبيّة، بل «تكريس» إيجابي للحياة لله.


اولاً: القداسة في الكتاب المقدس

+ الله هو قدوس { مَنْ مِثْلُكَ بَيْنَ الآلِهَةِ يَا رَبُّ؟ مَنْ مِثْلُكَ مُعْتَزًّا فِي الْقَدَاسَةِ، مَخُوفًا بِالتَّسَابِيحِ، صَانِعًا عَجَائِبَ؟} (خر ١٥: ١١). وتسبحه الملائكة ويشهدون لقداسته { السَّرَافِيمُ وَاقِفُونَ فَوْقَهُ، لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتَّةُ أَجْنِحَةٍ، بِاثْنَيْنِ يُغَطِّي وَجْهَهُ، وَبِاثْنَيْنِ يُغَطِّي رِجْلَيْهِ، وَبَاثْنَيْنِ يَطِيرُ. وَهذَا نَادَى ذَاكَ وَقَالَ: «قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ، قُدُّوسٌ رَبُّ الْجُنُودِ. مَجْدُهُ مِلْءُ كُلِّ الأَرْضِ».} (إش ٦: ٢، ٣) وعلينا أن نسبح الله لقداسته {بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ، وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ.}(مز ١٠٣: ١) كما أننا مدعوين للقداسة { تكونون لي قديسين لأني أنا الرب قدوس}(لا 20: 26). وان كانت القداسة قديماً مرتبطة بالعبادة والطهارة الطقسية، لكنها تعني بالأساس تكريس الشعب لله.

+ اما في العهد الجديد فقد تجسد الأبن الوحيد، كلمة الله ليقدس الجسد الإنساني ككل ويهبنا أمكانيات القداسة كعطية منه. وأعلن لنا قداسة الله، وأنه مصدر تقديسنا {الذي صار لنا حكمة من الله وبرًّا وقداسة وفداء} (1كو 1: 30). فالقداسة ليست وصية فقط بل عطية { هذا هو مشيئة الله قداستكم} (1تس 4: 3). وثمر لعمل الروح القدس فينا وهي شرط لرؤية الله { اتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب} (عب 12: 14).

ثالثاً: القداسة في فكر الآباء

القداسة في فكر الآباء ليست مجرد حالة أخلاقية أو سلوك خارجي، بل هي حياة الشركة مع الله والاتحاد به من خلال عمل الروح القدس. وهي دعوة لكل إنسان أن يصير على صورة المسيح ومثاله ليتقدّس ويتحد بالله في المسيح يسوع كراس الكنيسة بالروح القدس ويرى القديس أثناسيوس الرسولي أن القداسة هي ثمر التجسد: "تأنس الكلمة لكي نتألّه نحن" أي ننال التقديس كعطية الروح القدس فليس القداسة كمال بشريًا، بل عطية إلهية نأخذها بالنعمة. وهي انفصال عن الخطية واتحاد بالله. ويشرح القديس كيرلس الكبير أن القداسة هي الانفصال عن الشر والخطية والاتحاد بالمسيح القدوس. فالقداسة ليست سلبًا (الابتعاد عن الشر فقط) بل إيجابًا (الامتلاء من الله). والقداسة هي حياة مستمرة من التقديس كما يؤكد القديس باسيليوس الكبير أن القداسة ليست حالة لحظة واحدة بل مسيرة يومية، حيث ينقّي الإنسان قلبه ويجاهد ليحيا في الطهارة والنقاوة. وهي عمل الروح القدس فينا وبحسب القديس مقاريوس الكبير، القداسة هي ثمرة الروح القدس الذي يسكن في القلب ويحوّله إلى هيكل مقدس. فالروح القدس هو الذي يقدّس الأسرار والإنسان معًا. والقديس إيرينيئوس يوضح أن القداسة هي إعادة تشكيل صورة الله في الإنسان، التي تشوّهت بالسقوط، لكي يعود ويصير "إنسانًا كاملًا في المسيح يسوع". القداسة في فكر آباء الكنيسة هي حياة الاتحاد بالله، وعمل النعمة الإلهية في الإنسان، وسير مستمر نحو الكمال المسيحي، لينمو المؤمن ليصير أيقونة حية للمسيح وسط العالم. ليس القداسة أن نعتزل العالم، بل أن نعيش وسطه ونكون نورًا فيه.

ثانياً: القداسة والحياة الروحية

1. أهمية القداسة

+ نسير في طريق القداسة لكى نعاين الله { اِتْبَعُوا السَّلاَمَ مَعَ الْجَمِيعِ، وَالْقَدَاسَةَ الَّتِي بِدُونِهَا لَنْ يَرَى أَحَدٌ الرَّبَّ}(عب ١٢: ١٤). وقد سار في طريق القداسة الكثيرين من قبلنا وهم سحابة شهود محيطة بنا لكى نجاهد في صبر ناظرين الي رئيس إيماننا ونتبع خطواته { لِذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْل، وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا،  نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ.} (عب ١٢: ١، ٢).

+ القداسة والقديسين هم شهادة لمسيحنا القدوس وعمله في النفس البشرية ليصير المؤمن إنجيل معاش بسلوكه الحسن {فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ.} (مت ٥: ١٦)

+ القداسة ليست التزامًا أخلاقيًا فقط، بل شركة مع الله وعشرة حب فيها نثبت في المسيح ونتقوى في إيماننا الأقدس { فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ. }(٢ كو ٧: ١)

٢-  كيف نقتني القداسة

+ التوبة اليومية: كأساس النمو الروحي يوما فيوم.

+ الصلاة والأسرار: سر التناول يعطينا عربون الحياة المقدسة.

 + الصوم والزهد: ترويض الجسد وتحرير الروح.

+ العمل الروحي والجهاد : مقاومة الأفكار والشهوات.

 + الإرشاد الروحي: الأب الروحي يحمي من الانحراف ويقود إلى النضج.

خامساً: نماذج من سير القديسين

تذخر كنيستنا القبطية بقديسين من كل الفئات والاجيال في كل العصور..

١- فمن قديسى الرهبنة نرى القديس أنطونيوس الكبير الذي ترك العالم وذهب إلى البرية، عاش حياة نسك وصلاة وصار مثالًا وأبا لكل الرهبان. والقديس مكاريوس الكبير، مؤسس برية شيهيت، عاش في حياة صلاة وصوم عميق، وتميز بروح التواضع والرحمة. والقديس الانبا باخوميوس الكبير اب ومؤسس نظام الشركة في الرهبنة، جمع الرهبان تحت قانون جماعي.

٢-  من الشهداء نرى القديسة دميانة التي استشهدت معها أربعين عذراء في زمن الاضطهاد بسبب تمسكهن بالإيمان. والقديس أبسخيرون القلينى أحد قادة الجيش، شهد للمسيح بكل شجاعة حتى استشهد.

٣-  من الآباء البطاركة والأساقفة، القديس أثناسيوس الرسولي (البطريرك الـ20): دافع عن الإيمان ضد هرطقة أريوس، وحُفظ له لقب "حامي الإيمان". والقديس كيرلس الكبير ،عمود الدين بطريرك الإسكندرية الذي واجه هرطقة نسطور وحفظ عقيدة التجسد. 

٤- من العلمانيين القديس يوليوس الإقفهصي كاتب سير الشهداء الذي كرّس حياته لجمع وتوثيق سير الشهداء.

والقديسة فيرينا التي علمت الشعب السويسري النظافة والصحة والنظافة، وصارت مثالًا للقديسة العلمانية الخادمة. هذه بعض امثلة توضح تنوع القداسة في الكنيسة القبطية التي تمتلي بهم السماء وهم سحابة شهود تشفع فينا.

سادساً: البعد النفسي والروحي

علم النفس الروحي يرى أن القداسة تعني انسجام قوى النفس من العقل للتأمل في الحق، والإرادة للجهاد ضد الشر، والعاطفة للمحبة. من هنا فالقداسة هي صحة روحية ونفسية تجعل الإنسان حرًّا من عبودية الخطية.

القداسة ليست ترفًا روحيًا بل دعوة إلزامية، هدفها أن يصير الإنسان أيقونة لله على الأرض. إنها اتحاد بالله من خلال التوبة والإيمان والجهاد المستمر، وهي أيضًا شهادة حيّة للعالم. وهي طريق مفتوح لكل مسيحي في الكنيسة، وفي البيت، وفي المجتمع. وكما قال القديس مقاريوس: «كما أن النار تحرق الشوك، كذلك الروح القدس يحرق خطايا النفس».

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

الكتاب المقدس

* الكتاب المقدس 

* أثناسيوس الرسولي، حياة أنطونيوس.

* يوحنا السلمي، السلم إلى السماء.

* القديس يوحنا الذهبي الفم، عظات على إنجيل متى.

* سامي حبيب، القداسة في فكر الكنيسة الأولى، مكتبة المحبة – القاهرة.

* «Ladder of Divine Ascent», St. John Climacus, Cistercian Publications.

المساواة وعدم التمييز - ٤٣

 المساواة وعدم التمييز - ٤٣


أولاً مفهوم المساواة وعدم التمييز 

+ المساواة من الجذر "سوَى"، أي التماثل والتكافؤ بين الأشياء أو الأشخاص في القدر أو القيمة أو الاستحقاق. ويقال: "ساوى بين الناس" أي جعلهم في مستوى واحد.

أما التمييز فهو التفريق أو الفصل أو التفرقة على أساس معين. وبالتالي فإن "عدم التمييز" يعني رفع الفوارق المصطنعة التي تضع إنسانًا في مرتبة أعلى أو أدنى من غيره. فمن الناحية اللغوية، المساواة هي المعاملة على قدم المساواة، وعدم التمييز هو ضمان عدم إقصاء أو ظلم أحد بسبب أي فارق شخصي أو اجتماعي.

+ والمساواة وعدم التمييز القانوني.. فالمبدأ القانوني ينص على أن جميع الأشخاص متساوون أمام القانون، ويتمتعون بحقوق وحريات متكافئة دون تمييز. ومعظم دساتير العالم الحديثة تتضمن نصوصًا صريحة تحظر التمييز على أساس الجنس أو العرق أو الدين أو اللغة أو الوضع الاجتماعي. والإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) في مادته الأولى يقول: "يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق." كما توجد تشريعات وسياسات لمكافحة التمييز، مثل قوانين العمل التي تمنع التفرقة في الأجور على أساس الجنس، وقوانين تجرّم خطاب الكراهية.

+ المساواة وعدم التمييز في علم الاجتماع

 المساواة تعني عدالة توزيع الفرص والموارد والحقوق بين أفراد المجتمع. وعدم التمييز يعني تفكيك البنى الاجتماعية التي تولّد الامتياز لفئة على حساب أخرى مثل الطبقية، والمساواة تتحقق عندما تُوزَّع الحقوق والواجبات بشكل عادل ويُتاح للجميع فرص متساوية.

ويفرق علماء الاجتماع بين المساواة الشكلية في نصوص القانون والمساواة الفعلية وتطبيقها في الواقع.

+ في الواقع العملي نواجه تحديات في المساواة وعدم التمييز رغم وجود نصوص قانونية، فالواقع يكشف عن فجوات كبيرة مثل تمييز في سوق العمل والتمييز العرقي أو الديني في بعض الدول. والتمييز على أساس المستوى الاقتصادي أو الطبقي. ويجب أن تبذل النظم السلسية والمنظمات الحقوقية جهدها لمحاربة الفساد والمحسوبية وعلي المستوى الفردي والعام لتتحقق المساواة تدريجيًا عبر التربية، نشر ثقافة احترام الآخر، وتعزيز قيم العدل. فالمساواة وعدم التمييز ليستا مجرد مفاهيم لغوية أو مواد قانونية، بل هما أساس لمجتمع عادل يضمن الكرامة الإنسانية ويحتاج للوعي والتربية، والممارسة العملية.

ثانياً : المساواة في الكتاب المقدس

يؤكد الإنجيل المساواة وعدم التمييز { قَدْ أَخْبَرَكَ أَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا هُوَ صَالِحٌ، وَمَاذَا يَطْلُبُهُ مِنْكَ الرَّبُّ، إِلاَّ أَنْ تَصْنَعَ الْحَقَّ وَتُحِبَّ الرَّحْمَةَ، وَتَسْلُكَ مُتَوَاضِعًا مَعَ إِلهِكَ.} (مي ٦: ٨). ولقد تنبأ اشعياء علي خلاص السيد المسيح للكل لاسيما المساكين والماسورين  {رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ. }(إش ٦١: ١). ففي المسيح ومعه يتساوي الكل { ليس بعد يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى، لأنكم جميعًا واحد في المسيح يسوع. }(غل ٢٨:٣). فالخلاص والكرامة والمكانة في المسيح لا تُقسَّم الناس حسب الجنس أو العرق أو الوضع الاجتماعي. ويحذر الكتاب من محاباة الأشخاص حسب المظهر أو الحالة المادية، فتفضيل الغني على الفقير يُعد خطيئة ومحاباة غير عدالة ( يع ١:٢-١٠). فليس لدى الله محاباة { فَفَتَحَ بُطْرُسُ فَاهُ وَقَالَ: «بِالْحَقِّ أَنَا أَجِدُ أَنَّ اللهَ لاَ يَقْبَلُ الْوُجُوهَ. بَلْ فِي كُلِّ أُمَّةٍ، الَّذِي يَتَّقِيهِ وَيَصْنَعُ الْبِرَّ مَقْبُولٌ عِنْدَهُ.} (أع ١٠: ٣٤، ٣٥) . وفي المسيح يتساوى الكل{ ليس يوناني ولا يهودي ولا مختون ولا غير مختون، برابري ولا سِكّيثي، عبد أو حر، بل المسيح هو الكل وفي الكل }( كو ١١:٣) ومن الظلم أن يُعامل الاشخاص بمعيارين مختلفين دون عدالة حسب العرق، الجنس، الوضع الاقتصادي، العبودية. والتمييز هنا يعني وضع حواجز، أو اعتبار فئات من الناس أقل قيمة أو أقل حقًّا في المشاركة أو في الكرامة الإنسانية.

+ المساواة وعدم الظلم في فكر الآباء 

* يقول لاكتانتيوس (Lactantius)

في كتاباته أن بين الناس لا فرق حقيقي في الروح، مسيحي حر أو عبد، غني وفقير “نحن إخوة في الروح  ويؤكد أن المساواة بين المؤمنين ليست مساواة دينية فقط بل مسيحية أخلاقية تجاه الآخر. ويؤكد الآباء المُبكّرون عمومًا على أن الكرامة الإنسانية المتأصلة، كما أن من يشترك في الإيمان بالمسيح يُعتبر أخًا/أختًا، ويجب أن يُعطى الاحترام والعناية. مثلاً، في تعاليم بعض الآباء يُدان الاستغلال، للفقير، أوالظلم الاجتماعي.

+ وكان القديس يوحنا الذهبي الفم من الأصوات القوية في مكافحة التمييز الاجتماعي، مطالبًا الأغنياء بالاعتناء بالفقراء، ومنادياً بضرورة العدالة المجتمع. 

ثالثاً: اهمية المساواة

* المساواة تنعكس من صورة الله علي الإنسان فكل إنسان مخلوق “على صورة الله” (تك٢٧:١). وهذا يمنح كل فرد كرامة وأحترام.

* إنها شرط أساسي لتجسيد محبة الله والعشرة المسيحية الحقيقية؛ لأن المحبة الحقة لا تُميز بين أخ واخت وأخر ، بل تُحب الغير كما تحب النفس.

* العدالة تُعد من ثمار الروح القدس مثلها كمثل الأمانة، السلام، الفرح، كجزء من رسالة الأنبياء والمسيحله المجد.

ومن الناحية النفسية

* الشخص الذي يعاني من التمييز يشعر بالاغتراب، انخفاض الكرامة الذاتية، القلق، الاكتئاب.

* المساواة تُعزز الثقة بالنفس، الانتماء، الإحساس بالعدل، وترفع من قدر الفرد في عينه وفي عيون الآخرين.

* من دون مساواة، تتراكم الجروح النفسية، تؤدي إلى صراعات، إلى تأزم العلاقات الاجتماعية، وربما إلى العنف.

من الناحية الاجتماعية

* المجتمعات التي تحترم المساواة والتنمية العادلة تنمو أسرع، أكثر استقرارًا، أكثر إنصافًا في توزيع الموارد.

* التمييز والظلم يقوض الثقة الاجتماعية، يشجع الصراعات، يؤدي إلى التهميش، الفقر، البطالة، انهيار النسيج الاجتماعي.

* العدالة والمساواة من عوامل السلام، تحول الانقسامات إلى شراكات، تزيد من التماسك والتعاون بين المجموعات.

وكمثال عملي من نضال أشخاص في سبيل المساواة مارتن لوثر كينغ جونيور (Martin Luther King Jr.) الذي قاد حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة في الستينات لمناهضة التمييز العنصري تجاه السود، مستندًا إلى القيم المسيحية للعدالة، المحبة، اللاعنف. وفي شعره “لدي حلم” يعكس الأمل في مجتمع يحقق المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين.

+ المساواة وعدم التمييز ليس موضوعًا أخلاقيًا أو اجتماعيًا، بل هي أمر روحي أساسي في المسيحية، التي تُظهر محبة الله وحقّ الإنسان في الكرامة، وفي الحضور أمام الله. وعلى الفرد أن يعيش هذه القيمة، وعلى المجتمع أن يبني مؤسساته على أساسها، لأن التقدم الحقيقي لا يتحقق إلا إذا أعطيت الكرامة لكل إنسان وزالت الجدران التي تفصل بين الناس.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع 

* الكتاب المقدس 

* Lactantius, Of the Duties of the Just Man and the Equity of Christians. 

* أقوال يوحنا الذهبي 

* كتب عن مارتن لوثر كينغ، الحقوق المدنية، مثل Why We Can’t Wait، Stride Toward Freedom.

* دراسات اجتماعية معاصرة كالأبحاث التي تربط عدم المساواة بمؤشرات الصحة، التعليم، السعادة. (أبحاث جامعة يورك).

الحرية في المسيحية- ٤٢

 الحرية في المسيحية- ٤٢

للحرية أهميتها في الحياة الإنسانية، فهي حق اجتماعي وسياسي كما أنها والأهم عطية روحية أعمق تتحقق في حياة الإنسان من خلال علاقته بالله. الحرية تحرر خارجي من القيود وتحرر داخلي من عبودية الخطية والشهوات، وانطلاق الإنسان ليحيا في محبة الله والآخرين. وكما قال الرب يسوع المسيح { فَإِنْ حَرَّرَكُمُ الاِبْنُ فَبِالْحَقِيقَةِ تَكُونُونَ أَحْرَارًا} (يو ٣٦:٨ ). ومن هنا يتضح أن الحرية هي عطية خلاصية في المسيح فيها يتحرر المؤمن من الخطية ومن إبليس وخداعه ومن تأنيب الضمير ويطيع الله في حرية بدافع المحبة ويمارس العبادة بحرية ابناء الله وتحرر من الشهوات والخطايا وأنقياد لروح الله.

أولاً: الحرية في الكتاب المقدس وفكر الآباء 


+ يظُهر العهد القديم الحرية كخلاص من العبودية للغير { فَقَالَ الرَّبُّ: «إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ. إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ،  فَنَزَلْتُ لأُنْقِذَهُمْ} (خر ٣: ٧، ٨).فالحرية ارتبطت بالتحرر من العبودية للغير أو الخطية أو التحرر من الوثنية للعيش في عهد مع الله (تث ٦:٥).{ وَيَكُونُ فِي يَوْمٍ يُرِيحُكَ الرَّبُّ مِنْ تَعَبِكَ وَمِنِ انْزِعَاجِكَ، وَمِنَ الْعُبُودِيَّةِ الْقَاسِيَةِ الَّتِي اسْتُعْبِدْتَ بِهَا}(إش ١٤: ٣). ويؤكد الأنبياء على أن الحرية الحقيقية تتحقق في طاعة الله وليس في الانفلات من الظلم فقط (إر ١٥:٣٤-١٧).

+ وفي في العهد الجديد يركز العهد الجديد على الحرية من الخطية والموت { لأَنَّ نَامُوسَ رُوحِ الْحَيَاةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ قَدْ أَعْتَقَنِي مِنْ نَامُوسِ الْخَطِيَّةِ وَالْمَوْتِ}(رو٢:٨). والحرية من حرفية الناموس { لِلْحُرِّيَّةِ قَدْ دَعَانَا الْمَسِيحُ. فَاثْبُتُوا إِذًا، وَلَا تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ} (غل 5: 1). الحرية ليس فرصة للجسد او الخطية بل تحرر داخلي يجعل المؤمن يخدم الجميع وفي محبة أخوية { وَأَمَّا أَنْتُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَقَدْ دُعِيتُمْ إِلَى الْحُرِّيَّةِ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تَصِيرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا} (غل١٣:٥).

+ مفهوم الحرية عند آباء الكنيسة

* اكد القديس اثناسيوس الرسولي أن تجسد الكلمة منحنا حرية من الفساد والموت وأن المسيح هو الذي عتقنا من عبودية إبليس.

* وقد اوضح القديس كيرلس الكبير أن الحرية هى الدخول في شركة مع المسيح، فالخطية تجعل الإنسان عبد أما الاتحاد بالمسيح فيحررنا من ربط الخطية ويصيرنا أحرار.

* والقديس أغسطينوس يقول أن الحرية الحقيقية ليست في أن نفعل ما نريد، بل أن نكون قادرين أن لا نخطئ. فالإنسان الحر هو الذي يتحرر من سلطان الخطيئة بمحبة الله.

* ويرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن الحرية الحقيقية لا تُقاس بالظروف الخارجية، بل بحياة الفضيلة. فالقديس في السجن أكثر حرية من الخاطئ الغارق في شهواته.

ثانيا: الحرية كحق إنساني أصيل

الحرية ايضاً هي قدرة الإنسان على اتخاذ قراراته واختياراته في حدود ما لا يضر بالآخرين أو بالمجتمع، وهي تعني التحرر من القيود غير العادلة سواء كانت قيودًا سياسية أو اجتماعية أو فكرية أو دينية أو اقتصادية. لذلك الحرية هى حق إنساني طبيعيً يولد مع الإنسان. الحرية ليس منحة بل تعترف بها القوانين وتكفلها، حتى لو عانى البعض من نظم مستبدة، وينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (١٩٤٨م.) في مادته الأولى على أن: "يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق". وتُعتبر الحرية أساس لممارسة باقي الحقوق كحرية الرأي، والعقيدة، وحرية التنقل، والمشاركة السياسية. ولذلك فهناك اشكال للحرية كالحرية الشخصية وحق الفرد في الأمان على حياته وخصوصيته. والحرية الفكرية والعقائدية كحق الفرد في التفكير والتعبير والإيمان. وحرية سياسية كحق الموطن في المشاركة في الحكم ومن يمثله. وحرية اقتصادية واجتماعية كحق الفرد في حرية العمل والملكية والتنظيم. والحرية تعطي للإنسان كرامته وتحقق له الشعور بالمسؤولية. والحرية شرط أساسي للإبداع والتقدم العلمي والثقافي. وبدون الحرية تتحول المجتمعات إلى ساحات قمع وظلم، فالحرية ليست مجرد مطلب فردي، بل هي أساس بناء المجتمع الديمقراطي العادل وضمانة لاحترام كرامة الإنسان.

ثالثاً: العبودية التي تسلب الحرية

1. عبودية الخطية

اكد السيد المسيح أن من يفعل الخطية هو عبد لها { كُلُّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّةِ} (يو ٣٤:٨). فالخطية تسيطر على الإرادة وتستعبد النفس وتدمر الحرية الداخلية.

2. عبودية الإدمان

سواء كان إدمان الشهوات، أو المخدرات، أو الإنترنت، أو أي عادة رديئة. { وَإِنَّمَا أَقُولُ: اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ. لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ. وَلكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ.} (غل ٥: ١٦-١٨). الإدمان يسلب ارادته الحرة، ويجعل الإنسان أسيراً لما يشتهي.

3. عبودية المال 

ان المال خادم جيد لكنه سيد قاسي يستعبد من يخدمه { لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ… لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ} (مت ٢٤:٦). محبة المال والمجد الباطل تجعل الإنسان خادماً لأطماع لا تشبع، ويفقد الإنسان حريته الروحية. { لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ.} (١ تيم ٦: ١٠)

رابعاً: كيف نحصل على الحرية في المسيح؟

* الإيمان بالمسيح والاتحاد به: الحرية عطية من المسيح المخلص.

* المعمودية: دخول الإنسان إلى حياة جديدة فيها يموت مع المسيح ويقوم معه (رو ٤:٦-٧). 

* التوبة والاعتراف: تحرر مستمر من قيود الخطية.

* الامتلاء بالروح القدس: «حَيْثُ رُوحُ الرَّبِّ هُنَاكَ حُرِّيَّةٌ» (٢ كو١٧:٣).

* المحبة العملية: الحرية المسيحية ليست أنانية، بل تتحقق في عطاء وبذل. (غل١٣:٥).

* ممارسة الفضائل الروحية: مثل الصوم، الصلاة، الخدمة، فهي تقوي الإرادة وتحرر من الشهوات.

خامساً: الأبعاد النفسية والاجتماعية للحرية 

* الحرية في المسيح تمنح الإنسان سلامًا داخليًا لأنه لا يعود أسيراً للشهوات.

* ونفسيًا الحرية تُعيد للإنسان اتزانه وكرامته، وتمنحه قوة لمواجهة الإدمان باشكاله المختلفة.

* واجتماعيًا ..تمنح الحرية الإنسان روح الخدمة، فيسعى لبناء المجتمع بمحبة ومساواة.

* الحرية المسيحية تحمي من التطرف والانغلاق، لأنها تُربط دائمًا بالمسؤولية.

+ الحرية في المسيحية ليست مجرد شعار أو حق سياسي، بل هي حياة في المسيح الذي أعتقنا من عبودية الخطية والموت. إنها حرية مسؤولة، تُترجم في المحبة والخدمة وبذل الذات. كلما اقتربنا من المسيح واتحدنا به بالإيمان والأسرار والنعمة، اختبرنا الحرية الكاملة التي تعطي معنى جديدًا للحياة.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع 

* الكتاب المقدس

* القديس أثناسيوس الرسولي – تجسد الكلمة.

* القديس أغسطينوس – الاعترافات.

* القديس يوحنا ذهبي الفم – عظات على رسالة غلاطية.

* كيرلس الكبير – تفسير إنجيل يوحنا.

* كتابات البابا شنوده الثالث – الحرية في المسيحية.

* ج. مولتمان، لاهوت الرجاء والحرية.

الحق والعدل - ٤١

 الحق والعدل - ٤١

أولاً: مفهوم الحق والعدل


الحق في مفهومه اللغوى يُطلق على الوجوب او الثبوت للشئ ومطابقته للواقع. يُقال "حق الشيء" أي ثبت ووجب. أما العدل فهو الإنصاف وإعطاء كل ذي حق حقه، والمساواة بين الناس دون ظلم لأحد والعدل يدل على الاستقامة والموازنة والتسوية. أما من الناحية الروحية فالحق هو الله ذاته، كما قال المسيح: { أنا هو الطريق والحق والحياة} (يو ١٤:٦). فالحق مرتبط بالله وبالإعلان الإلهي، ويقود إلى الحرية (يو٣٢:٨). والعدل هو صفة من صفات الله ويقوم على الرحمة والحق معًا، ولا ينفصل عن المحبة. وفي الفكر المسيحي الحق هو مطابقة السلوك والإيمان لمشيئة الله. العدل يعني معاملة كل إنسان بحسب كرامته التي من الله، ورفع الظلم عنه. وعند الآباء، العدل ليس فقط قانون بل هو فضيلة روحية تعكس صورة الله في الإنسان.

+ ومن الناحية القانونية فان الحق هو ما يقرره القانون للفرد أو الجماعة من امتيازات أو حريات (مثل حق الحياة، الحرية، حق الملكية والتنقل والراى والاعتقاد ). والعدل هو غاية يسعى إليها القانون لتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، وإقامة المساواة أمام القانون، ومنع التعدي والظلم ويعتبر الفقهاء الحق وسيلة، والعدل هو الهدف الأسمى الذي يحكم القوانين ويعطيها الشرعية.

+ وفي المفهوم الاجتماعي الحق هو ما يعترف به المجتمع لكل فرد من مكانة وحريات وكرامة، في ضوء القيم الإنسانية وحقوق الإنسان وهو الأساس الذي يُبنى عليه السلام الاجتماعي. والعدل هو النظام الذي يضمن التوازن بين أفراد المجتمع، ويُحقق تكافؤ الفرص، ويمنع الاستغلال والتمييز. والعدل الاجتماعي يعني أن يحصل كل فرد على ما يستحقه من موارد وخدمات وحماية، بما يتناسب مع جهده وكرامته الإنسانية.

+ ويُعتبر الحق والعدل من أعظم القيم التي يقوم عليها بناء الفرد والمجتمع. فالكتاب المقدس يربط بين الله والعدل، إذ يُعلن أنه { إله الحق والعدل} (تث 32: 4). وفي التراث الآبائي واللاهوتي، نجد أن العدل ليس مجرد نظام قانوني، بل هو حياة مطبوعة على الانسان، صورة الله وتُترجم عملياً في المحبة والإنصاف. وغياب الحق والعدل يولّد القلق والاضطراب والتمزق الاجتماعي، بينما حضورهما يعزز السلام الداخلي والاستقرار المجتمعي.

ثانياً: الحق والعدل في الكتاب المقدس وفكر الأباء

الحق في العبرية ’emet (أمانة/صدق/ثبات)، وفي اليونانية aletheia (كشف/انفتاح/حقيقة). والعدل في العبرية tsedeq (استقامة/بر)، وفي اليونانية dikaiosyne (عدالة/بر). وكلا المفهومين في الكتاب يرتبطان بالله نفسه: "الرب إله حق" (إر 10: 10)، و"الرب بار في كل طرقه" (مز 145: 17). والله يوصينا قائلا { لا تسر وراء الكثيرين لتحرف الحق}(خر 23: 2).

{ احكموا بالحق وقضاء السلام في أبوابكم} (زك 8: 16). السيد المسيح نفسه قال: { أنا هو الطريق والحق والحياة}(يو 14: 6)، فصار الحق شخصاً يُقتدى به لا مجرد مبدأ. وفي العهد القديم، الوصايا والتشريعات ركزت على عدالة القضاء والحقوق الاجتماعية. أما في العهد الجديد، تجسد العدل في تعليم المسيح: { طوبى للجياع والعطاش إلى البر (العدل) لأنهم يشبعون} (مت 5: 6).

+ وفي  فكر آباء الكنيسة يشدد القديس أثناسيوس علي ان الحق ليس معرفة نظرية بل شهادة للمسيح القائم ويرى القديس أغسطينوس أن العدل هو "ترتيب المحبة"، أي أن يُعطى لله ما لله والإنسان ما للإنسان. ويربط القديس يوحنا ذهبي الفم بين العدل وخدمة الفقراء، قائلاً: "من يهمل المحتاجين يُسلب العدل الإلهي". أما القديس باسيليوس الكبير فقد دعا الحكام أن "يخضعوا للعدل الإلهي أولاً قبل أن يحكموا بالعدل البشري".

ثالثاً: البعد النفسي والاجتماعي والقانوني

+ يرى كارل يونغ أن الحاجة للحق والعدل جزء من التوازن النفسي والضمير الجمعي. وان غياب العدل يولّد الغضب والإحباط والاكتئاب، بينما حضوره يبعث الطمأنينة والأمان. اما البعد الاجتماعي للعدل فهو شرط أساسي للاستقرار والانسجام، فالمجتع الذي يسوده الظلم يتفتت بالعنف والاضطرابات، بينما العدل يحافظ على وحدة النسيج المجتمعي.

+ ومن الجانب القانوني فان القانون يسعى  إلى تحقيق العدالة البشرية، لكن العدالة الكتابية واللاهوتية تضع معياراً أعلى يقوم على البر والمحبة. فالقانون بدون روح الحق قد يتحول إلى ظلم مقنّن، أما القانون المستنير بالحق المسيحي فيؤدي إلى حفظ كرامة الإنسان وصون حقوقه. ويعكس الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948) جذوراً كتابية مسيحية في تأكيد الحق والعدل، حيث "جُبل الإنسان على صورة الله ومثاله" (تك 1: 27).

رابعاً: كيف نشهد للحق والعدل ونعيشه؟

+ على المستوى الشخصي يجب ان نكون صادقين مع أنفسنا والآخرين. ويوصينا الله بالدفاع عن المظلومين { أفتح فمك لأجل الأخرس} (أم 31: 8). وعلينا تنمية الضمير الأخلاقي ليستنير بروح الله فنخشى الله الذي يحكم بالعدل ويجاز كل أحد حسب عمله {وَهُوَ يَقْضِي لِلْمَسْكُونَةِ بِالْعَدْلِ. يَدِينُ الشُّعُوبَ بِالاسْتِقَامَةِ. }(مز ٩: ٨)

+ وعلى المستوى الكنسي فالكنيسة شاهدة للحق بتعليمها وسير قديسيها. وتقوم بالعمل الخدمي والرحمة كصورة عملية للعدل. وعلى المستوى المجتمعي علينا ان ندعم ونطلب بالقوانين العادلة وونفذها ونحافظ علي كرامة كل إنسان ونحترم الكبير والصغير. ونرفض المحاباة والتمييز. ونشارك بفاعلة في نشر ثقافة الخدمة المجتمعية والحق والعدل عبر التربية والإعلام 

+ إن الحق والعدل هما جوهر رسالة الله للبشرية. فالمسيح، الذي هو "الحق"، يدعونا أن نحيا "بالبر والقداسة" (أف 4: 24)، وأن نكون "نور العالم" (مت 5: 14) بإقامة العدالة في حياتنا ومجتمعنا. إن الشهادة للحق والعدل ليست رفاهية بل التزام روحي ونفسي وقانوني، به يتحقق خلاص الفرد وسلام المجتمع.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس

* القديس أغسطينوس، مدينة الله.

* القديس يوحنا ذهبي الفم، عظات على متى.

* القديس أثناسيوس، تجسد الكلمة.

* القديس باسيليوس الكبير، القوانين الأخلاقية.

* جورج خضر، العدالة في الكتاب المقدس.

* كارل يونغ، الإنسان ورموزه.

* الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948).