نص متحرك

♥†♥انا هو الراعي الصالح و الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف يو 10 : 11 ♥†♥ فيقيم الخراف عن يمينه و الجداء عن اليسار مت32:25 ♥†♥ فلما خرج يسوع راى جمعا كثيرا فتحنن عليهم اذ كانوا كخراف لا راعي لها فابتدا يعلمهم كثيرا مر 34:6 ♥†♥ و اما الذي يدخل من الباب فهو راعي الخراف يو 2:10 ♥†♥

الخميس، 18 ديسمبر 2025

صغر النفس وعلاجه - ٥٥

 صغر النفس وعلاجه  -  ٥٥

أولاً: مفهوم صغر النفس حسب الآباء علماء النفس


 يُعد صغر النفس (Inferiority of the soul) من أخطر الحالات الداخلية التي تصيب الإنسان، حيث يشعر بالدونية والعجز وعدم الاستحقاق أمام نفسه أو أمام الآخرين أو حتى أمام الله مما يعيق استمتاعه بالحياة وكراهية الاخرين او حتى نفسه هذه الحالة عندما تكون مستمرة وليس مجرد ضعف عابر،  تتحول إلى معوق للنمو الروحي والنفسي، وتؤدي إلى الاكتئاب أو الانعزال أو الإحباط فيشعر الإنسان بالعجز وعدم الأهمية ويتعلق العلاج بقبول النفس والأعتماد علي الإيمان للتغلب علي المتاعب والمشاعر السلبية وتقدير الذات والبحث عن نقاط القوة في الإنسان وتقويتها فإله السماء يعطينا النجاح وعلينا ان نثق في محبة ونجاهد وننجح هكذا فعل داود النبي وتقوى بالإيمان امام الاسد والدب وغلبهما ومن معونة الله له استمد قوة وانتصر علي جليات الجبار ، والقديس بولس الرسول جاهد الجهاد الحسن يكرز ويبشر بملكوت الله. ونحن مخلوقين علي صورة الله ومثاله وعلينا أن نقبل ذواتنا ونثق في الله وأنفسنا وفي تغلبنا علي الصعاب في الماضى ومنها نستمد قوة للنجاح والاحساس بالقيمة في الحاضر والمستقبل.

+ لقد اهتم آباء الكنيسة منذ القرون الأولى بصغر النفس وعلاجه وقالوا أنه ثمرة لابتعاد النفس عن الله وفقدان ثقتها في محبته، كما تناولها علماء النفس كحالة مرتبطة بتقدير الذات (Self-esteem) والشعور بالنقص والدونية، فالقديس يوحنا الذهبي الفم يقول  "إن كنا نعتبر ضعفنا أعظم من نعمة الله، فإننا نسيء إلى محبته ونفقد سلامنا" والقديس أنطونيوس الكبير: يشير إلى أن النفس إذا تذكرت خطاياها بلا رجاء في رحمة الله، يتحول الاتضاع إلى يأس، ويُسحق الإنسان داخليًا. أما القديس باسيليوس الكبير فيميّز بين التواضع كفضيلة وصغر النفس كعِلّة، لأن التواضع يقوم على الثقة بالله، أما صغر النفس فناتج عن فقدان الرجاء.

+ اما في مجال علم النفس فيعرّف ألفرد أدلر عقدة النقص بأنها شعور بالدونية مما يولِّد الانسحاب أو محاولة تعويض مبالغ فيها. ويري علم النفس الحديث أن صغر النفس مرتبط بانخفاض تقدير الذات، وبخبرات الطفولة السلبية والمقارنة المستمرة بالآخرين.

ثانياً: أسباب ونتائج صغر النفس 

لصغر النفس أسباب روحيه كضعف الإيمان بمحبة الله، وتراكم الشعور بالذنب، وغياب الرجاء في الخلاص، والمقارنة المستمرة بالآخرين او من تحقير الأخرين للشخص. فقد اسقط يسى داود من حسابه بين أخوته ( ١ صم ١١:١٦) واحتقره اخوه بكبرياء { وَسَمِعَ أَخُوهُ الأَكْبَرُ أَلِيآبُ كَلاَمَهُ مَعَ الرِّجَالِ، فَحَمِيَ غَضَبُ أَلِيآبَ عَلَى دَاوُدَ وَقَالَ: «لِمَاذَا نَزَلْتَ؟ وَعَلَى مَنْ تَرَكْتَ تِلْكَ الْغُنَيْمَاتِ الْقَلِيلَةَ فِي الْبَرِّيَّةِ؟ أَنَا عَلِمْتُ كِبْرِيَاءَكَ وَشَرَّ قَلْبِكَ، لأَنَّكَ إِنَّمَا نَزَلْتَ لِكَيْ تَرَى الْحَرْبَ».} (١صم ١٧: ٢٨). والنقد المستمر في الطفولة، الفشل المتكرر، الحرمان العاطفي، الضغوط الاجتماعية كلها تؤدى إلي صغر النفس وفقدان الرجاء، والعجز عن الصلاة بثقة، والانغلاق على الذات، والوقوع في تجربة اليأس. وقد يقود الطموح الزائد مقابل الامكانيات المحدودة الي الوقوع في المشاكل والفشل مما يؤدى الي صغر النفس ويقود صغر النفس الي القلق، الاكتئاب والانعزال وصعوبة اتخاذ القرارات وضعف العلاقات.

ثالثاً: العلاج الروحي

+ الثقة في محبة الله: لابد ان نثق ان الله يقبلنا ويحبنا رغم ضعفنا وهو يريد أن يعمل معنا وبالصلاة والعمل الجاد نستطيع كل شئ{ أَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ الَّذِي يُقَوِّينِي.} (في ٤: ١٣) وعلينا أن نقبل أنفسنا وما لا يمكن تغييره فينا ونعمل علي تطوير ذواتنا والتعلم من التعثر في حياتنا ونفهم ذواتنا ونقبلها. الله يشجعنا قائلاً { لا تخف أيها القطيع الصغير لأن أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوت} (لو 12: 32).

+ التوبة والاعتراف: ان الله يعد التائب بالغفران وعندما يغفر ينسى ويمحو فالتوبة تعيد للنفس إحساسها بالحرية ويقوى في الضعف { لِيَقُلِ الضَّعِيفُ: «بَطَلٌ أَنَا!} (يو ٣: ١٠)

+ الشركة الكنسية: تعطي للمؤمن إحساس بالانتماء والكرامة في جسد المسيح (1كو 12: 12–27). وعلينا نساعد ونكمل بعض كاعضاء في جسد المسيح.

أما العلاج النفسي 

+ العلاج المعرفي–السلوكي: يكون بمواجهة الأفكار السلبية واستبدالها بأفكار بنّاءة تنمي وتبني وتشجع الإنسان وتقوده للنجاح.

+ تنمية تقدير الذات: من خلال الاعتراف بالنجاحات الصغيرة وتنمية القدرات.

+ العلاج الجماعي والدعم المجتمعي: لتقوية الروابط الإنسانية.

+ العلاج المتكامل: يجمع بين الإرشاد الروحي والدعم النفسي. 

 يشدد الآباء على أن قيمة الإنسان مستمدة من محبة الله وصورته فيه. أما علماء النفس فيركزوا على إعادة بناء تقدير الذات وتنمية القدرات. التكامل بينهما يجعل العلاج شاملاً، يعيد للإنسان رجاءه بالله وثقته بنفسه.

 إن صغر النفس مرض داخلي يهدد سلام الإنسان الروحي والنفسي، لكنه ليس قدرًا محتوماً. فالمسيحية تقدّم علاجًا جوهريًا. فقيمة الإنسان تأتي من كونه مخلوقًا على صورة الله ومحبوبًا لديه. أما علم النفس فيوفر أدوات عملية لإعادة بناء الذات. بالتكامل بين الاثنين ينال الإنسان شفاءً متكاملاً ويستعيد هويته كخليقة مكرمة قادرة على النمو الروحي والنفسي والاجتماعي.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس

* يوحنا الذهبي الفم، عظة على رومية.

* أنطونيوس الكبير، أقوال الآباء (بستان الرهبان).

* باسيليوس الكبير، رسالة إلى الشباب.

* مقاريوس الكبير، العظات الروحية.

* Adler, A. (1927). Understanding Human Nature. New York: Greenberg.

* Rosenberg, M. (1965). Society and the Adolescent Self-Image. Princeton University Press.

* Beck, A. T. (1979). Cognitive Therapy of Depression. Guilford Press.

* Branden, N. (1994). The Six Pillars of Self-Esteem. Bantam.

مخافة الله -٥٤

 مخافة الله -٥٤


مخافة الله باللغة العبرية تعني "יִרְאָה" (يرأه) تعني وقار وتقدير نابع من إدراك قداسة الله { مَخَافَةُ الرَّبِّ رَأْسُ الْمَعْرِفَةِ، أَمَّا الْجَاهِلُونَ فَيَحْتَقِرُونَ الْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ.} (الأمثال ١: ٧). وتأتي "פַּחַד" (فَحَد) بمعني خوف أو رهَب أو ذعر من خطر أو دينونة كما جاء في المزمور { خَوْفٌ وَرَعْدَةٌ أَتَيَا عَلَيَّ، وَغَشِيَنِي رُعْبٌ. فَقُلْتُ: «لَيْتَ لِي جَنَاحًا كَالْحَمَامَةِ، فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ! }( مز ٥٥: ٥، ٦). وفي اللغة اليونانية فان مخافة الله تدل على التوقير { وَأَمَّا الْكَنَائِسُ فِي جَمِيعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالْجَلِيلِ وَالسَّامِرَةِ فَكَانَ لَهَا سَلاَمٌ، وَكَانَتْ تُبْنَى وَتَسِيرُ فِي خَوْفِ الرَّبِّ، وَبِتَعْزِيَةِ الرُّوحِ الْقُدُسِ كَانَتْ تَتَكَاثَرُ.} (أع ٩: ٣١) وتأتي المخافة بمعني توقير او تقوى الله {فَإِذْ لَنَا هذِهِ الْمَوَاعِيدُ أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ، مُكَمِّلِينَ الْقَدَاسَةَ فِي خَوْفِ اللهِ. }(٢ كو ٧: ١). وهناك نوعان من المخافة، خوف العقوبة كبداية طريق التوبة. والخوف البنوي وهو أحترام مُحبّ لا يتعارض مع الثقة، ويلازم النضج الروحي.

اولاً: مخافة الله في الكتاب المقدس 

+ المخافة لله كبداية المعرفة لله { رَأْسُ الْحِكْمَةِ مَخَافَةُ الرَّبِّ. فِطْنَةٌ جَيِّدَةٌ لِكُلِّ عَامِلِيهَا. تَسْبِيحُهُ قَائِمٌ إِلَى الأَبَدِ. }(مز ١١١: ١٠). والمخافة هي عطية من الله { وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ.} (إش ١١: ٢). ومخافة الله طريق البركة والفرح {طُوبَى لِكُلِّ مَنْ يَتَّقِي الرَّبَّ، وَيَسْلُكُ فِي طُرُقِهِ.  لأَنَّكَ تَأْكُلُ تَعَبَ يَدَيْكَ، طُوبَاكَ وَخَيْرٌ لَكَ.} (مز ١٢٨: ١، ٢)

+  في العهد الجديد

تميزت الكنيسة منذ تاسيسها في عصر الرسل بالسير في خوف الرب وتعزية الروح القدس (أع ٩: ٣١). كما اوصى الرسل المؤمنين بان يتمموا خلاصهم بخوف الله { إِذًا يَا أَحِبَّائِي، كَمَا أَطَعْتُمْ كُلَّ حِينٍ، لَيْسَ كَمَا فِي حُضُورِي فَقَطْ، بَلِ الآنَ بِالأَوْلَى جِدًّا فِي غِيَابِي، تَمِّمُوا خَلاَصَكُمْ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، }(في ٢: ١٢). ومخافة الله تتكامل مع محبته والمحبة تطرح الخوف من العقوبة الي خارج وتنمي توقيرنا البنوى لله { بِهذَا تَكَمَّلَتِ الْمَحَبَّةُ فِينَا: أَنْ يَكُونَ لَنَا ثِقَةٌ فِي يَوْمِ الدِّينِ، لأَنَّهُ كَمَا هُوَ فِي هذَا الْعَالَمِ، هكَذَا نَحْنُ أَيْضًا. لاَ خَوْفَ فِي الْمَحَبَّةِ، بَلِ الْمَحَبَّةُ الْكَامِلَةُ تَطْرَحُ الْخَوْفَ إِلَى خَارِجٍ لأَنَّ الْخَوْفَ لَهُ عَذَابٌ. وَأَمَّا مَنْ خَافَ فَلَمْ يَتَكَمَّلْ فِي الْمَحَبَّةِ. }(١ يو ٤: ١٧، ١٨). المخافة ليست حالة ذعر، بل حضور يقظ وتوقير أمام الله القدوس.

ثانياُ: مخافة الله في تقليد الكنيسة

+ القديس أثناسيوس الرسولي في سيرة أنطونيوس يُبرز أن بداية الطريق عند أنطونيوس كانت بكلمة الإنجيل التي أوقعت في قلبه رهبة مقدّسة، فترك كلّ شيء واتّبع المسيح؛ المخافة هنا قوّة دافعة للزهد والطهارة، لا تشوّهًا نفسيًا.

+ ويميز القديس كيرلس الإسكندري في تفاسيره بين خوف العبيد وخوف الأبناء؛ فبنعمة التبنّي في المسيح نعبد «بالروح والحق»، وتبقى المهابة تحفظ القلب من التهاون.

+ يربط القديس ديديموس الضرير بين الابتهاج بالرب ومخافته فالفرح الحقيقي وليد الوقار، لأن المخافة تحفظ الذهن من التسيّب.

+ ويقول القديس أنطونيوس الكبير أن المخافة هي حارس الوصايا؛ تثبت بالسهر، وتمييز الأفكار، والاتّضاع.

أما القديس مقاريوس الكبير فيصف انتقال النفس من خوف الدينونة إلى خوف المحبّة حين يسكن الروح في القلب؛ عندئذٍ «تخاف أن تُحزن الروح»، لا أن تُعاقَب فحسب. أما القديس الأنبا شنّوده رئيس المتوحدين فيشدّد على وقار الحياة المشتركة؛ المخافة نظامٌ داخليّ يضبط اللسان والجسد والعمل. ويربط القديس الأنبا باخوميوس بين المخافة بالطاعة والميثاق؛ علامة المخافة الطاعة السريعة وفرح الخدمة. ويذكر «بستان الرهبان" لنا قصص كثيرة تُظهر أن مخافة الله تُثمر صدق الضمير، الصمت، حفظ الفكر، والرحمة.

+  وفي الليتورجيا القبطية يكرر النداء الدياكوني المتكرّر: «قِفوا بخوف الله وانصتوا لسماع الإنجيل المقدّس» وفي القداس نصلى «امنحنا أن نخدمك بكل طهارة وبرّ». وفي الأجبية: مزامير كثيرة تحس علي المخافة لله (مثلاً مز 19، 25، 51، 130)، وتجعلها عادة قلبيّة يوميّة.

ثالثًا: الفوائد الروحيّة–النفسيّة والأخلاقيّة لمخافة الله

* بداية الحكمة والتمييز: تمنع التهوّر وتفتح الذهن للتعلّم (أم 1: 7).

* حراسة القلب: تولّد السهر الداخلي وحفظ الحواس، فتقلّل الاشتهاء والاندفاع.

* مولّدة للاتّضاع: من يقف أمام الله القدوسٍ «نار آكلة» لا يتّكل على ذاته.

* دافع للاستقامة والعدالة والرحمة: من «يخاف الله» يحسن إلى الضعيف «لأن عيني الرب على خائفيه».

* توازن نفسيّ: تقي من «التسيّب» كما تبعد منا «الخوف المرضي»؛ فهو وقارٌ مطمئن لا قلقٌ مزعج.

* تقديس العبادة: تحوّل الطقوس إلى دخول واعٍ إلى الحضرة الإلهية.

* قوة ضد الرياء: لأن المخافة تُحَسِّس الضمير بحضور الله أكثر من حضور الناس.

رابعاً: كيف نقتني مخافة الله ونحياها يوميًا؟

(أ) مسار تكويني عملي

* توبة واعية ومحاسبة نفس: مراجعة يومية أمام الله (مز 139: 23–24) تُنقّي الخوف من العقوبة إلى خوف محبّة.

* تغذية كتابيّة: حفظ آيات «المخافة–المحبّة» (مز 111: 10؛ عب 12: 28؛ 1 يو 4: 18) وتلاوتها في الصلاة.

* الليتورجيا والأسرار: الاقتراب بوقار وتقوى من الإفخارستيا، فالليتورجيا معلم لمخافة الله.

* إرشاد أب اعتراف: يميّز بين الضمير الحسّاس والموسوس؛ يحوّل الخوف إلى غيرة مستقيمة.

* الهدوء والصمت والسهر الذهني : الحضور الواعي أمام الله يُثبّت الوقار.

* أعمال الرحمة والعدل: «مخافة الرب» تُترجم إلى رحمة ملموسة؛ كلّما أحببت أكثر «خفتُ أن أحزن قلب الله».

* تذكُّر الآخرَة: «اذكر آخرتك» (سير 7: 36) يطهّر الدوافع دون تهويل.

* اتّضاع عملي: إقرار بالعجز مع رجاء: «بدونك لا أقدر… ومعك أستطيع» (يو 15: 5؛ في 4: 13).

(ب) تمارين روحيّة مختصرة

* خمسة دقايق صباحًا: وقفة صامتة أمام الله مع صلاة «يا رب، امنحني قلبًا يهابك ويحبّك».

* قبل ان تتأخذ قرار: سؤالان: «هل يُسرّ الله بهذا؟ هل فيه محبّة لله وللقريب؟»

* مزمور اليوم: اختر عددًا واحدًا عن المخافة وردّده طوال اليوم.

* فحص في المساء: كيف تصرّفتُ كعبد خائف من العقوبة؟ أو كابنٍ يخاف أن يحزن الآب؟ ثمّ نقدم توبة مختصرة.

خامساً: الجمع بين «المخافة» و«المحبّة»

* ترتيب تربوي: عادةً يبدأ الإنسان بـالخوف من الدينونة الذي يوقظه من الغفلة؛ ومع نعمة الروح ينمو إلى خوف البنوة حيث يبقى الوقار ويزول الخوف.

* لاهوتيًا: بالاتّحاد بالمسيح نعيش البنوة لله(رو ٨)، فتُطرح «مخافة العقوبة» (1 يو 4: 18)، لكن الوقار يبقى لأن الله «قدّوس»؛ الابن يحبّ ويوقّر الله.

* آبائيًا:  يعلّمون الآباء أن «المخافة تحرس المحبّة والمحبّة تنقّي المخافة»؛ فكلّما ازددنا محبّة ازددنا حساسيّة لعدم إهانة الله القدوس.

* رعويًا: العلاج من التطرف: ضدّ التسيّب: بالتذكير بقداسة الله، وضدّ القلق الروحي: بتأكيد الأبوة والنعمة والغفران، وإعادة تشكيل صورة الله في الذهن من «ديّان عادل فقط» إلى «أب قدّوس محبّ».

+ إن مخافة الرب هي نور حضور الله داخل النفس ومعها تبدأ كجرس إنذار للخاطئ، وتنضج كوقارٍ بنوي يحرس المحبّة. في التقليد القبطي، صارت المخافة مدرسةً للاتّضاع والتمييز عبر كلمة الله والليتورجيا، حيث يتعلّم القلب أن يقف أمام إلهٍ نارٍ آكلةٍ دون رُهاب، بل بمحبّة تُمسك بايدينا كابناء وتقودنا في موكب نصرته وترافقنا للابدية.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

مراجع 

* الكتاب المقدس

* أثناسيوس الرسولي، سيرة القديس أنطونيوس.

* القديس أنطونيوس الكبير، الرسائل

* مقاريوس الكبير، العظات الروحية.

* شنّوده رئيس المتوحّدين، قوانين وخطب (الطاعة والوقار في الحياة المشتركة).

* ديديموس الضرير، شروح على المزامير/الروح القدس.

* كيرلس الإسكندري، تفسير إنجيل يوحنا والتجسّد.

* بستان الرهبان.

* نصّ القداس الباسيلي والغريغوري في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية

* الأجبية: مزامير وصلوات السواعي.

الهدوء والصمت وحياتنا الروحية- ٥٣

 الهدوء والصمت وحياتنا الروحية- ٥٣

+ الهدوء (peace/quiet): هو السكينةٌ الخارجية والداخلية التي تنشأ من الثقة بالله والسلام الداخلي وليست مجرّد غياب الضجيج. والصمت (silence): هو ضبط اللسان والحواس، والانتقال من ثرثرة الخارج إلى إنصات القلب. أما التأمّل (contemplation/meditation): فهو تركيزٌ يقظٌ على الله وكلمته، حتى يصير الذهن «بسيطًا» والروح «نقيّة»، فيثمر ذلك معرفة ومحبةلله والغير، وفي التراث المسيحي الشرقي يختزل هذا المنهج بكلمة الآباء، الهيسيكيا ἡσυχία أي السكينة المقدّسة التي تعني «سكونُ القلب أمام الله»؛ وهي جوهر الحياة الرهبانية القبطية منذ آباء البرية الأولين


أولًا: الكتاب المقدس والهدوء والتأمل

+ يدعونا الكتاب الي الهدوء والصمت والتأمل من أجل خلاصنا ولقوتنا الروحية ويقول :{ بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ.} ( إش ٣٠:١٥). ولقد سمع إيليا النبي صوت الله في الهدوء لا في الزلزلة او النار { وَبَعْدَ الزَّلْزَلَةِ نَارٌ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ فِي النَّارِ. وَبَعْدَ النَّارِ صَوْتٌ مُنْخَفِضٌ خَفِيفٌ. فَلَمَّا سَمِعَ إِيلِيَّا لَفَّ وَجْهَهُ بِرِدَائِهِ وَخَرَجَ وَوَقَفَ فِي بَابِ الْمُغَارَةِ، وَإِذَا بِصَوْتٍ إِلَيْهِ يَقُولُ: «مَا لَكَ ههُنَا يَا إِيلِيَّا؟»} (١مل ١٩: ١٢، ١٣). ويدعوا الكتاب الي الصمت والتأمل في عظمة الخالق { كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ. أَتَعَالَى بَيْنَ الأُمَمِ، أَتَعَالَى فِي الأَرْضِ. }(مز ٤٦: ١٠).  والحكيم يتعلم أن لكل أمر زمانه المناسب { لِكُلِّ أَمْرٍ زَمَانٌ… وَزَمَانٌ لِلسُّكُوتِ وَزَمَانٌ لِلتَّكَلُّمِ} ( جا ٧:٣)

+ وفي العهد الجديد نرى السيد المسيح ينسحب من بين الجموع ويختلي للصلاة والتأمل في هدوء { وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ،} (مر ١: ٣٥). كما كان يدعو تلاميذه للخلوة والهدوء { فَقَالَ لَهُمْ: «تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً.} (مر ٦: ٣١).

وهكذا يدعونا نحن للهدوء والصلاة والتأمل { وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.} (مت ٦: ٦). ويعلمنا الرب أن نبتعد عن الثرثرة والكلام الباطل { بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ. }(مت ٥: ٣٧). فلنحرص ان نكون هادئين { وَأَنْ تَحْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونُوا هَادِئِينَ، وَتُمَارِسُوا أُمُورَكُمُ الْخَاصَّةَ، وَتَشْتَغِلُوا بِأَيْدِيكُمْ أَنْتُمْ كَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ،} (١ تس ٤: ١١). وقدمت لنا القديسة مريم العذراء نموذج للهدوء والصمت المقدس { كَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ مُتَفَكِّرَةً بِهَا فِي قَلْبِهَا}(لو ١٩:٢). الهدوء والصمت ليسا انسحاب من اداء رسالتنا بل هم شرط للرؤية الصحيحة والطاعة العميقة لله.

ثانيًا: فكر الآباء وتراث البرية

+ يقول القديس أنطونيوس الكبير: «اجعل خوفَ الله أمام عينيك كل حين… واحفظ لسانك من كثرة الكلام.» (رسائل أنطونيوس). ويرى القديس أن الصمت يحفظ الذهن بسيطًا ومصليًا.

+ القديس مقار الكبير: في العظات المنسوبة إليه يفرّق بين الصمت الخارجي ونقاوة القلب؛ فالهيسيكيا الحقيقيّة أن يصير القلب «كهيكل لله».

+ القديس الأنبا أرسانيوس: كان له قول مشهور عن الصمت «كَثِيرًا مَا تَكَلَّمْتُ فَنَدِمْتُ، أَمَّا عَلى الصَّمْتِ فَلَمْ أَنْدَمْ قَطّ.» وهو نموذج التزام الصمت ليتعلّم «فنّ السكون أمام الله». والأنبا بيمين (الشيخ) يقول : «اِسْكُتْ، وَاجْلِسْ فِي قَلْبِكَ، وَاذْكُرِ اللهَ دَائِمًا.» (أقوال الآباء).

+ القديس باخوميوس: وضع قوانين تُقلّل الكلام إلى الضروري، لئلّا «يَضِيعَ مِزَاجُ الصَّلَاةِ» في الدير.

+ القديس شنودة رئيس المتوحدين: شدّد على الانضباط وضبط اللسان، وربط بين «حراسة الفم» و«حراسة القلب» في عظاته وقوانينه.

+ والقديس يوحنا السُّلَّمي يعرّف الهيسيكيا بأنها «عبادةُ الربِّ بلا انقطاع وسجودُ العقل أمامه»، ويرى أن كثرة الكلام تشتت الذهن وتضعف مخافة الله. وكان الاباء يرددوا «صلاة يسوع» في القلب مع التنفس شهيق وزفير كانفاسهم (يا رب يسوع المسيح ابن الله الحي ارحمنى أنا الخاطئ) لتصبح نبضًا صامتًا يهدّئ الذهن ويجمع القلب. فالصمت ليس امتناعًا سلبيًا عن الكلام، بل حراسةٌ للحواس وجمعٌ للفكر ليثبت في ذكرى الله. هكذا عاش ابائنا القديسين حياة الصلاة والصمت والهدوء والتأمل. فالقديس الأنبا بيشوي: عُرف بكثرة الاختلاء، حتى صار «الرجل الكامل حبيب مخلصنا الصالح» لأن القلب الهادئ يصير موضعَ سكنى الله. والقديس بولا اول السواح والقديس أنطونيوس وحتى في لقائهما معا كان لقاء الصامتين في البرية شركة حبٍّ في الله. والقديس موسى القوي: تعلّم أن يزن الكلام بميزان التوبة، فصار صمته قوة تمييز وتعاطف. والقديسة مريم المصرية قضت سنوات الصمت في البرية حتى اقتنت قلبًا نقيًا وذاكرة إنجيلية حية.

والبابا كيرلس السادس (القرن 20): جعل لنفسه قانون صمت وصلاة يسند خدمته، فكان حضوره مغمورًا بسلام عجيب. ان حياتنا ورسالتنا تتوهّج أكثر حين تتجذّر في صمتٍ مصليّ.

ثالثاً:  ماذا يقول علم النفس؟

 الدراسات لا تتكلّم عن «الصمت الروحي» تحديدًا بل عن الهدوء، التأمل الذهني، وتقليل الضوضاء، والانتباه اليقظ؛ والنتائج عامة وقد تختلف بين الأشخاص. فالتعرّض المزمن للضوضاء يرتبط بارتفاع التوتّر القلبي الوعائي واضطراب النوم وزيادة الكورتيزول؛ لذا توصي تقارير صحية دولية بتخفيض مستويات الضجيج البيئي لحماية القلب والنوم.

+ ترميم الانتباه والإبداع: «نظرية ترميم الانتباه» (Kaplan) تفيد بأن التعرض لبيئات هادئة وطبيعية يُعيد شحن الانتباه المجهد، ما ينعكس على الصفاء الذهني والابتكار.

+ الدماغ ووضعية الشبكة الافتراضية (DMN): تصوير الدماغ يشير إلى أن ممارسات التأمل المُركز تقلّل من شرود الذهن ونشاط DMN المرتبط بالتشتت واجترار الأفكار، وتزيد وصلات مناطق التنظيم التنفيذي.

+ الصمت والاعصاب: أظهرت دراسة على القوارض أن فترات من الصمت اليومي ارتبطت بتبدّلات بنيوية في الحصين (منطقة الذاكرة)، ما يوحي بإمكان دور للهدوء في التعافي العصبي. الهدوء والصمت الواعي يوفّران بيئةً عصبية-نفسية تساعد على تنظيم الانفعال، واستعادة الانتباه، وتعميق الوعي الذاتي وهو ما يشهد له التراث الروحي منذ قرون.

رابعاً:  ثمرات الهدوء والصمت والتأمّل

* معرفة الله والذات: «بالهدوء والتفكّر» ينكشف عمق الدوافع وتُشفى النيات.

* تمييز الروحيات: يُصقَل السمع الداخلي لتمييز ما هو من الله وما هو من الذات.

* تطهير الكلام: يصير الكلام أقلّ وأصدق وأبني؛ «نِعْمَةٌ مَصْبُوبَةٌ عَلَى شَفَتَيْكَ».

* سلام العلاقات: يقلّ التسرّع وسوء الفهم، ويزداد الإصغاء والتعاطف.

* فعالية العمل: التركيز العميق يحتاج بيئات هادئة ومقاطع صمت.

* صحة نفسية أفضل: توتر أقلّ، نومٌ أفضل، ومرونة انفعالية أعلى.

خامساً: كيف نقتني حياة الهدوء والصمت والتأمل

أ. تهيئة المكان والإيقاع بخلق بيئة مناسبة وزاوية هدوء يومية بعيدا عن الضجيج ونوفر فيها كرسي مريح، شمعة أو صليب، إنجيل كإشارة حسية للذهن أن «هنا سكينة». وان أمكن بمواعيد كربع ساعة يوميًا كبداية (صباحًا/مساءً)، تزداد تدريجيًا. الثبات أهم من الطول. فيها «وضع طيران» للصلاة والتأمل العميق.

ب. ممارسة الصمت المصلي فنبدأ بالكتاب: قراءة فقرة قصيرة  من الإنجيل ثم ترديد صلاة يسوع (قصيرة، على النفس): عند الشهيق «يا رب يسوع المسيح»، عند الزفير «ارحمني أنا الخاطئ». 5–10 دقائق. مع حراسة الحواس بإغلاق العينين قليلًا، إرخاء الكتفين، ملاحظة الأفكار العابرة دون حوار معها والعودة للصلاة ونختم الخلوة بصلاة شكر لله 

ج. صمتٌ يثمر في العلاقات والعمل

قاعدة القديس يعقوب الرسول { إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ، }(يع ١: ١٩). (استمع سريعًا/تكلم ببطء/اغضب ببطء). درّب نفسك على فاصلة صامتة قبل الرد. اختلي بدون هواتف جرّب نصف ساعة او ساعة أن تغلق الموبيل وتحيا في هدوء وصمت وتأمل وصلاة مع يوم خلوة شهري مع إنجيل ومفكرة تكتب فيها ما هو ضرورى لحياتك وخلاصك ومستقبلك ولاحظ مدى نموك وعلاماته من زيادة اللطف، وضوح الفكر، قلّة التسرّع، الفرح الهادئ. أن الهدوء التأملي والهيسيكيا ليست ترفًا للنساك، بل عمل كل إنسان روحى وطريقٌ للراحة والبعد عن الضجيج إلى الإصغاء لصوت الله داخل النفس والبعد عن التشتّت إلى المحبة الفاعلة. وكلما اذداد صمتنا لله، اتّسع قلبنا للعالم.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

مراجع 

الكتاب المقدّس

التراث القبطي والآبائي

* بستان الرهبان 

* القديس أنطونيوس الكبير، رسائله

* القديس مقاريوس الكبير، عظات روحية.

* قوانين القديس باخوميوس.

* القديس شنودة رئيس المتوحدين، العظات والقوانين.

* يوحنا السلّمي، سُلَّم الفضائل (الدرجات)، فصل «الهيسيكيا».

* Ware, Kallistos. The Orthodox Way (فصول الصلاة واليقظة).

* The Philokalia (مختارات عن اليقظة والصلاة القلبية).

علم النفس والأعصاب

* Goyal, M. et al. (2014). Meditation Programs for Psychological Stress and Well-being. JAMA Internal Medicine.

* Kaplan, S. (1995). The Restorative Benefits of Nature: Toward an Integrative Framework. Journal of Environmental Psychology.

* Brewer, J. A. et al. (2011). Meditation experience is associated with differences in default mode network activity and connectivity. PNAS.

حياة التسليم - ٥٢

 حياة التسليم - ٥٢


 مفهوم حياة التسليم

حياة التسليم لله هي أن يثق المؤمن في الله ويسلّم ذاته وكل ظروفه بين يدي الله بثقة كاملة في حكمته وصلاحه، دون مقاومة أو خوف. وهذا لا يعني الاستسلام السلبي، بل اختيار حرّ واعٍ للإيمان بعناية الله التي تجعل كل الأشياء { تعمل معًا للخير للذين يحبون الله} (رو ٢٨:٨). وكما يقول القديس إسحق السرياني: “التسليم هو أن يُلقي الإنسان همومه على الله، كما يُلقي المريض نفسه في يد الطبيب الماهر دون جدال.”. إنها الثقة التي تجعل الإنسان يعيش في راحة داخلية عميقة، لأن من يعرف الله حقًا، لا يعود يخاف شيئًا، بل يرى يد العناية الإلهية في حياته دائماً.

أولاً:  التسليم في الكتاب المقدس

في العهد القديم، نرى إبراهيم يعلمنا تسليم الحياة لله فعندما طُلب منه أن يقدم إسحق ذبيحة، لم يجادل ولم يسأل: لماذا؟ بل أطاع في صمت، لأنه كان قد سلّم إرادته بالكامل لله (تك٢٢). وقد شهد الله لإيمانه وقال له: {فَقَالَ: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا، لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي». }(تك ٢٢: ١٢). هذا هو التسليم الذي يرى الله من خلاله إيماننا العامل بالمحبة لا بالكلام بل بالفعل.

+ وفي العهد الجديد، نرى المثال الكامل في المسيح يسوع، إذ وجد في الهيئة كانسان وضع ذاته وأطاع وقال في بستان جثسيماني: { يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ. }(لو ٢٢: ٤٢). هذا هو قمة التسليم: أن يقبل الإنسان إرادة الآب حتى حين تمرّ به الكأس المرّة. وفيه تتحقق الثقة التي قال عنها المزمور: { سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي.}(مز ٣٧: ٥)

ثانياً:  التسليم في فكر الآباء ..

عاش القديس الأنبا أنطونيوس الكبير حياة التسليم الكامل في البرية، لا يخزن شيئاً ليوم الغد، بل يعتمد كل يوم علي عناية الله وكان يقول لتلاميذه " من عرف الله لا يهتم بما يكون غداً، لأن الله موجود في الغد كما هو في اليوم". وهذا عاش الأنبا بولا في البرية مسلماً حياته بالتمام لله وكان الله يرسل له غراب بنصف خبزه يوميا ولما زاره الأنبا أنطونيوس أتى له الغراب بخبزة كاملة فالله الذي نسلم له حياتنا لن يخذلنا ابداً.

يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: “من يسلم نفسه لله، لا يخاف لا من مرضٍ ولا من ظلمٍ ولا من فقدانٍ، لأنه يعلم أن الرب يدبّر له الأفضل.” ويشرح القديس مار إسحق السرياني معنى حياة التسليم: “حين تثق بالله أكثر مما تثق بنفسك، حينئذٍ تكون قد دخلت في التسليم.”

ثالثاً : البعد النفسي في حياة التسليم

من منظور علم النفس المسيحي، التسليم هو التحرر من القلق الناتج عن الرغبة في السيطرة على كل شيء.

الإنسان الذي يعيش في القلق يعيش صراعًا بين “ما يريد أن يحدث” و”ما يسمح الله به أن يحدث”، بينما التسليم يوحد الإرادتين. ويشير الطبيب النفسي المسيحي فيكتور فرانكل إلى أن أعمق راحة للنفس تأتي من إيجاد “المعنى” في الألم، لا من الهروب منه.

والمؤمن الذي يسلّم لله، لا يسأل دائمًا "لماذا؟" بل يقول "لأجل ماذا؟" — أي ما هو قصد الله من هذا الحدث؟

حين نفهم أن حتى الألم قد يكون طريقًا للتطهير والنضوج، نبدأ نتذوق السلام الذي يفوق كل عقل.

رابعاً: كيف نحيا حياة التسليم عمليًا؟

* الصلاة الدائمة:

في كل أمر صغير أو كبير، علينا أن نثق في الله ونصلي  ونقول: “لتكن مشيئتك يا رب”. كما صلّى المسيح نفسه.

* الإيمان بعناية الله في التفاصيل:

فالله لا يغفل عن “شعرة واحدة من رؤوسكم” (لو١٢:٧).

* التخلي عن الذات:

لا يمكن أن نعيش التسليم ونحن متمسكين بمشيئتنا الخاصة. لنصل إلى قول بولس الرسول: { مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. }(غل ٢: ٢٠)

* التعلم من سير القديسين:

فهم أمثلة حيّة على من عاشوا التسليم. مثل القديسة مريم المصرية التي سلّمت حياتها بعد توبة عميقة فعاشت في البرية ٤٧ عام بسلام عجيب، والأنبا بولا أول السواح الذي لم يعرف القلق يومًا لأن ثقته كانت في عناية الله الكاملة.

خامساً : ثمار حياة التسليم الروحية

* السلام الذي يفوق كل عقل

فالذي سلّم أمره لله، لا يضطرب مهما اشتدت العواصف.

بل يحيا في سلام دائم رغم الظروف { وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.} (في ٤: ٧)

* الثقة الثابتة في وعود الله:

لأن من يعرف أن الله أمين، لا يخاف من المستقبل.

{ قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ».} (يو ١٦: ٣٣)

* التحرر من الكبرياء والأنانية:

لأن التسليم يعني الاعتراف بأن الله هو المدبر، لا أنا.

{  فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ،  مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ.} (١ بط ٥: ٦، ٧)

* القداسة الداخلية والقدرة علي التعامل

حينما نترك الله يعمل فينا، ينقينا من شهواتنا وميولنا الفاسدة. ونستطيع أن نتعامل مع الآخرين ونحبهم دون خوف: لأن القلب المتكل علي الله لا يحتاج أن يثبت ذاته أمام أحد، بل يعيش بالحب والبساطة.

+ أننا نرى أناسًا بسطاء يعيشون التسليم بيننا في صمت، كأمٍّ أرملة تربي أبناءها علي الإيمان وتثق أن  “الرب يدبر.” لانها اختبرت كيف يرسل الله معونة في الوقت المناسب، كما أرسل الغراب لإيليا في البرية (1مل ١٧:٦). هؤلاء لا تُكتب سيرهم في الكتب، لكنهم يعيشون في عمق الثقة اليومية بالله.

+ إن حياة التسليم هي الطريق إلى النضوج الروحي.

التسليم والأتكال علي الله لا يعني هروب من المسئولية، بل يعني أن نعمل ونجاهد، ولكن في سلام وثقة لأننا نعلم أننا في يد الله. فمن يسلم حياته لله، يعمل دون توتر، ويجتهد دون أن يتعلّق بالنتائج، مثل الفلاح الذي يعتمد علي المطر في الزراعة، يزرع ويبذل جهده، لكن المطر بيد الله. وكما قال احد الأباء "كل ما هو لي هو من الله، فإن أخذ مني شيئًا، فليكن اسمه مباركًا.” هكذا يُولد السلام الداخلي الذي يملأ القلب بنور السماء والراحة والثقة حتى وسط الألم بأن كل الأشياء تعمل معاً لخيرنا لأننا نحب الله.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع:

* الكتاب المقدس

* القديس إسحق السرياني، ميامر مار اسحق

* القديس يوحنا ذهبي الفم، عظات على المزامير.

* أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير، بستان الرهبان .

* فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى.

طول الأناة وحياتنا العملية - ٥١

 طول الأناة وحياتنا العملية - ٥١

طول الأناة هى فضيلة الاحتمال والحكمة في وجه الغضب. وكلمة "الأناة" في اللغة العربية مأخوذة من الجذر (أ ن ى) وتعني التمهّل والتروّي وضبط النفس أمام الانفعال والعجلة. ويُقال: "أنى الرجل" أي تأنّى وتريّث. وفي اليونانية (لغة العهد الجديد) تُترجم كلمة طول الأناة إلى makrothymia، وهي مركّبة من "makros" (طويل) و"thymos" (نفس أو انفعال)، وتشير إلى «طول النفس» أو «القدرة على الاحتمال دون انفجار الغضب». أما في اللاتينية فتقابلها كلمة longanimitas، التي تعني الاستمرار في الخير مع الصبر أمام الشرور.


اولاً : طول الأناة في الكتاب المقدس

الكتاب المقدس يصف الله بأنه طويل الأناة أي صبور ورحيم { الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ} (مز 103: 8). ويتعامل الله معنا بطول الأناة والصبر والاحتمال حتى مع أهل نينوى البعيدين عن الله ارسل لهم يونان النبي ليحذرهم ويدعوهم للتوبة وعاتب يونان النبي قائلاً { أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ الَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلاَ رَبَّيْتَهَا، الَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟».} (يو ٤: ١٠، ١١).

وفي العهد الجديد يعاملنا الله بطول أناه ولا يجب علينا نستهين بغنى لطف الله { أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟ وَلكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ، تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَبًا فِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَاسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ،  الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ.} (رو ٢: ٤-٦) فطول أناة الله لرحمته علينا لنتوب. وطول الأناة هى من ثمار الروح القدس لدى المؤمنين الذين يجاهدوا ويطيعوا روح الله { وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ...} (غل 5: 22). ويشجعنا الرسول بولس على التحلي بها في مواجهة الناس { فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ،  مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا.} (كو ٣: ١٢، ١٣). فطول الأناة فضيلة تجعلنا نقتدى ونتمثل بالله، لأنها تعكس صبر الله على البشر.

ثانيا: طول الأناة في فكر وأقوال الآباء

١- يعلمنا القديس الأنبا انطونيوس بأن " طول الأناة يطرد الغضب، والإنسان الطويل الأناة هو أناء للروح القدس".

 ٢- يقول القديس يوحنا الذهبي الفم «ليس شيء يجعل الإنسان شبيهًا بالله مثل طول الأناة، لأن الله يشرق بشمسه على الأشرار والأبرار معًا». ويضيف أن طول الأناة هو «قوة روحية تكبح الغضب وتمنع اللسان من الانفعال».

٣- ويرى القديس أغسطينوس أن طول الأناة هو «محبة في شكلها العملي»، أي الصبر في مواجهة الإساءة. ويقول «من يحب حقًا لا يثور سريعًا، لأنه يرى المسيح في من يسيء إليه».

٤-  القديس يوحنا كاسيان

اعتبر أن طول الأناة لا تعني السلبية بل «قوة ضبط للنفس» وتُظهر حكمة داخلية وسلامًا قلبيًا. إذن في فكر الآباء، طول الأناة هي ثمرة الجهاد الداخلي ضد الغضب، وهي تاج الوداعة والتواضع.

ثالثاً : طول الأناة في علم النفس

من منظور علم النفس الحديث، طول الأناة يعادل ما يُعرف اليوم بـ التحكم في الانفعالات (Emotional Regulation) والذكاء الانفعالي (Emotional Intelligence). كما يشير علماء النفس مثل دانييل جولمان إلى أن الأشخاص القادرين على تأجيل الانفعال والسيطرة على ردود أفعالهم هم أكثر نجاحًا في العلاقات والعمل. والصبر وضبط النفس مما يخفف من التوتر والقلق. كما أن طول الأناة تمنح فرصة للفهم العميق قبل الرد، مما يقلل من الندم على القرارات المتسرعة. وطول الأناة يساعد في بناء علاقات مستقرة وبيئة عمل متوازنة. ويُظهر علم الأعصاب أن الجزء المسؤول عن ضبط الانفعال هو قشرة الفص الجبهي، التي تنشط لدى الأشخاص الهادئين أكثر من الانفعاليين.

رابعاً :فوائد طول الأناة في عالم اليوم

في زمن يتّسم بالسرعة والعنف والتوتر، يصبح طول الأناة ضرورة إنسانية وأخلاقية:

* في العلاقات الأسرية: يمنع التصادم وتبني الحوار والمسامحة.

* في بيئة العمل: يساعد على التعامل مع الضغط والاختلاف دون انهيار.

* في الحياة الروحية: يحفظ النفس من الغضب والمرارة، ويقوّي الإيمان في التجارب.

* في المجتمع: ينمي ثقافة التسامح بدلاً من العنف، ويدعم السلام الداخلي والخارجي.

خامساً : كيف نقتني طول الأناة؟

* التأمل في صبر الله علينا: فكلما أدرك الإنسان كم يصبر الله عليه، سهل عليه أن يصبر على الآخرين.

* الصلاة وطلب المعونة الإلهية: لأن طول الأناة ليست مجهودًا بشريًا فقط، بل ثمرة الروح القدس.

* ممارسة الصمت والهدوء: التروي قبل الكلام أو التصرف ولو لدقائق يقينا شر الغضب والتهور ويجعلنا نتصرف بحكمة.

* تذكّر نتائج الغضب: إن «غضب الإنسان لا يصنع بر الله» (يع٢٠:١).

* التدريب على التسامح: كما قال المسيح: { وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. }(لو ٦: ٣٧).

إن طول الأناة ليس ضعف بل قوة روحية ونفسية تعبر عن نضج الإنسان ومحبته وحكمته، وتجعل الإنسان يعيش السلام الداخلي وسط عالم اليوم الذي يعاني من القلق والصراع والتسرع ويعكس صورة الله الرحيم طويل الأناة في حياتنا وعلاقاتنا العملية.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس

* القديس يوحنا الذهبي الفم – العظات على رسالة أفسس، ترجمة المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية.

* القديس أغسطينوس – مدينة الله، الكتاب التاسع عشر.

* يوحنا كاسيان –  Conferences.

* الأب متى المسكين – فضيلة الصبر وطول الأناة في الحياة الروحية.

* دانييل جولمان – الذكاء العاطفي (Emotional Intelligence).

* إيفان بافلوف – الدوافع والانفعالات في السلوك الإنساني.

اللطف وأهميته - ٥٠

 اللطف وأهميته  - ٥٠


في عالم يموج بالعنف، والكراهية، والحروب، يظهر اللطف كقيمة روحية وإنسانية عميقة تعبّر عن حضور الله في الإنسان. اللطف ليس مجرد مجاملة أو طيبة سطحية، بل هو تعبير عن قلب ممتلئ بالحب الإلهي، يفيض سلامًا ورحمة على الآخرين، فكيف نتحلي باللطف في عالم قاسٍ مملوء بالصراعات.

أولًا: مفهوم اللطف في الكتاب المقدس

+ اللطف  " Kindness" في العهد القديم بكلمة "חֶסֶד – حِسِد" العبرية، التي تعني الرحمة، والنعمة، والإحسان. الله هو مصدر اللطف { وَتَجْعَلُ لِي تُرْسَ خَلاَصِكَ، وَلُطْفُكَ يُعَظِّمُنِي. تُوَسِّعُ خَطَوَاتِي تَحْتِي، فَلَمْ تَتَقَلْقَلْ كَعْبَايَ. }(٢صم ٢٢: ٣٦، ٣٧). الله يصنع معنا اللطف والأحسان ويعطينا نعمة في عيون الغير كما كان مع يوسف وبسط اليه لطفاً { وَلكِنَّ الرَّبَّ كَانَ مَعَ يُوسُفَ، وَبَسَطَ إِلَيْهِ لُطْفًا، وَجَعَلَ نِعْمَةً لَهُ فِي عَيْنَيْ رَئِيسِ بَيْتِ السِّجْنِ. }(تك ٣٩: ٢١). وكما تعامل الله بلطف ورحمة مع يوسف، راينا يوسف يعامل اخوته باللطف حتى بعد أن باعوه عبد {فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: «لاَ تَخَافُوا. لأَنَّهُ هَلْ أَنَا مَكَانَ اللهِ؟  أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا.  فَالآنَ لاَ تَخَافُوا. أَنَا أَعُولُكُمْ وَأَوْلاَدَكُمْ». فَعَزَّاهُمْ وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ.} (تك ٥٠: ١٩-٢١). اللطف الإلهي هو علاقة عهدٍ بين الله وشعبه، يتجلى في غفرانه، وحنوه، وإحسانه الدائم نحو الخطاة. فاللطف والرحمة هو جزء من السلوك الإيماني الحق.

+ وفي العهد الجديد يستخدم الكلمة اليونانية "χρηστότης – خريستوتيس"، وتعني اللطف أو الصلاح الرقيق. وهو ثمرة من ثمار الروح القدس:

«وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح...» (غل ٢٢:٥). السيد المسيح نفسه هو المثال الأسمى للطف { لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ} (مت ١٢: ١٩-٢١). الله يعاملنا باللطف حسب كثرة رحمته { وَلكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ - لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ - خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ}(تي ٣: ٤، ٥). لذلك علينا ان نتسلح باحشاء رافة ولطف واحتمال لنسامح بعضنا البعض { فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا. }(كو ٣: ١٢، ١٣). اللطف في المسيحية إذًا هو قوة هادئة، تُظهر محبة الله في التعامل مع الآخرين دون قسوة أو عنف.

ثانيًا: اللطف في فكر وأقوال الآباء

+ يقول القديس اثناسيوس الرسولي أنه المسيح " أظهر قوة لإهوته في لطفه أكثر مما أظهرها في معجزاته". ويرى القديس مكاريوس الكبير أن اللطف ثمرة من ثمار الروح القدس في الإنسان  " إن النفس المملؤة من الروح القدس تصير لطيفة ووديعة حتى نحو الأعداء لان الروح القدس يبدّل العنف الداخلى الي سلام". وهكذا تعامل الأنبا مكاريوس مع كاهن الوثن باللطف عندما قابله وحياه قائلا " تصحبك القوة يا رجل النشاط!" وعندما سأله عن إيمانه باللطف تعامل معه وجذبه للمسيح هو ومن معه.

+ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم "اللطف هو تاج المحبة، وهو الذي يجعل القاسي وديعًا، والغاضب هادئًا، والبعيد قريبًا." ويقول يوحنا الذهبي الفم أن اللطف ليس ضعفًا، بل هو قوة روحية نابعة من القلب المتواضع الممتلئ من النعمة. فاللطف الإلهي لا يعني التهاون، بل يحمل في طياته قدرة على احتواء الآخر وجذبه نحو التوبة.

+ ويقول القديس يوحنا السلمي أن اللطف ليس مجاملة بشرية بل توزان روحى بين الحزم والرحمة "اللطف هو حبّ بلا تملّق، ورحمة بلا كبرياء، وهدوء بلا تراخٍ."

ثالثًا: اللطف في علم النفس

+  التحليل النفسي والبعد الإنساني.. يرى كارل روجرز  أن اللطف هو أحد مظاهر "التقبل غير المشروط"، أي استقبال الآخر كما هو دون حكم أو نقد. بينما يرى إبراهام ماسلو أن الإنسان الذي بلغ قمة النمو الذاتي يتميز بالرحمة واللطف العميقين.

+ وأثبت علم النفس الإيجابي في الدراسات الحديثة أن اللطف يزيد إفراز هرمونات السعادة مثل السيروتونين والدوبامين، ويقلل من التوتر والاكتئاب. وقد أشار مارتن سليجمان إلى أن ممارسة أعمال اللطف اليومية (acts of kindness) ترفع الشعور بالرضا النفسي وتدعم العلاقات الاجتماعية.

+ اللطف في علم العلاج المعرفي السلوكي يستخدم كقوة علاجية وأداة لإعادة بناء العلاقات ولخفض الغضب والعدوانية. فالتعامل اللطيف يُعيد التوازن النفسي ويكسر دوائر الكراهية والعنف.

رابعًا: كيف يتحلى الإنسان باللطف وسط عالم العنف والحروب؟

+ الاتحاد بالمسيح مصدر اللطف

اللطف لا يُكتسب بجهد بشري فقط، بل هو ثمرة الاتحاد بالمسيح من خلال الصلاة والأسرار. وعندما يسكن المسيح في القلب، يفيض الإنسان بلطف طبيعي.

١- التأمل في حياة المسيح

المسيح تعامل بلطف حتى مع مضطهديه، حتى في اصعب اللحظات وهو علي الصليب قال { يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ.}(لو ٢٣: ٣٤) . فالتأمل في هذا المسيح المصلوب من أجل خطايانا وذنوبنا  يغيّر النفس وهكذا راينا استفانوس الشهيد الأول يتعلم من سيده المغفرة حتى لراجميه  { فَكَانُوا يَرْجُمُونَ اسْتِفَانُوسَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: «أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي». ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «يَارَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ». وَإِذْ قَالَ هذَا رَقَدَ.} (أع ٧: ٥٩، ٦٠)

٢- ضبط اللسان والغضب

كما قال القديس يعقوب: { إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ، لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ.} (يع ١: ١٩، ٢٠). اللطف يظهر أولًا في الكلام اللين ثم في أعمال الرحمة.

٣- ممارسة أعمال الرحمة

في بيئة مليئة بالحروب والفقر، يكون اللطف العملي من مساعدة المحتاجين، دعم الضعفاء، مواساة الحزاني .. الخ وذلك كتعبير صادق عن الإيمان.

٤- التربية على اللطف

علم النفس التربوي يؤكد أن الأطفال الذين يعيشون في بيئة يسودها اللطف يصبحون أكثر سلامًا واستقرارًا نفسيًا من غيرهم.

خامسًا: ثمار اللطف في الحياة الروحية والاجتماعية

* سلام داخلي: الإنسان اللطيف يعيش بضمير مستريح وبعلاقة متصالحة مع الله والناس.

* علاقات ناجحة: اللطف يجذب الآخرين ويصنع الثقة.

* قدرة على الغفران: اللطيف يغلب الشر بالخير كما أوصى الرسول بولس (رو٢١:١٢). 

* تحول المجتمع: اللطف الفردي يخلق ثقافة رحمة وسلام تعالج جذور العنف.

باللطف يعاملنا الله الرحوم وعلينا أن نتعلم منه. فاللطف والرحمة أعظم علاج العنف والقسوة وحين يتحول اللطف من مجرد سلوك إلى حالة روحية دائمة، يصير الإنسان أداة سلام في يد الله. فاللطف ليس ضعفًا، بل قوة نابعة من محبة الله لنا ومحبتنا نحن لغيرنا وتشبه بالله الرحوم الذي نؤمن به.

القمص أفرايم الأنبا بيشوي

المراجع

* الكتاب المقدس – العهدين القديم والجديد.

* القديس يوحنا الذهبي الفم، العظة على المحبة والوداعة.

* القديس أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.

* القديس يوحنا السلمي، سلم الفضائل.

* القديس مقاريوس الكبير، العظات الروحية.

* Carl Rogers, On Becoming a Person, 1961.

* Abraham Maslow, Motivation and Personality, 1954.

* Martin Seligman, Authentic Happiness, 2002.

* Pope Shenouda III, Life of Humility and Meekness, 1989.

* Mother Teresa, No Greater Love, 1997.

الشجاعة والجدية الروحية - ٤٩

 الشجاعة والجدية الروحية - ٤٩

الشجاعة والجدية الروحية من أهم الفضائل التي تدعم حياة المؤمن وتثبّته في طريق الملكوت. فالشجاعة تمنح المؤمن ثباتًا أمام التجارب والضيقات، بينما الجدية الروحية تحفظه من التراخي والفتور. وقد ارتبطت الفضيلتان معًا في الفكر الكتابي والآبائي بوصفهما أساسًا للنمو الروحي والسلوك المسيحي العملي.


اولاً: الشجاعة في الكتاب المقدس وفكر آباء الكنيسة

+ العهد القديم يوصى الله أُوصي بالشجاعة { تشدد وتشجع… لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب} (يش 1: 6-9). وداود أمام جليات يمثل نموذجًا للشجاعة الروحية المبنية على الثقة بالله (1 صم 17). يدعونا الكتاب إلي الثقة في الرب وعدم الخوف { لاَ تَخَفْ لأَنِّي مَعَكَ. لاَ تَتَلَفَّتْ لأَنِّي إِلهُكَ. قَدْ أَيَّدْتُكَ وَأَعَنْتُكَ وَعَضَدْتُكَ بِيَمِينِ بِرِّي.} (إش ٤١: ١٠)

+ وفي العهد الجديد يدعونا السيد المسيح إلي الثقة في الله وعدم الخوف { لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ. }(لو ١٢: ٣٢)  ويشجعنا ويمنحنا الثقة والسلام بانه كما غلب العالم وابليس سيغلب بنا ومعنا { قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ».}(يو ١٦: ٣٣). لقد وهب السيد المسيح للمؤمنين به السلطان ليدسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ووعدنا بان اسمائنا كتبت في السماوات لكى نسلك بشجاعة ولا نخاف حتى مما يقتلون الجسد { هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. وَلكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهذَا: أَنَّ الأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ».} (لو١٠: ١٩، ٢٠). ووعدنا بالحفظ حتى لشعر رؤوسنا { أَلَيْسَتْ خَمْسَةُ عَصَافِيرَ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا لَيْسَ مَنْسِيًّا أَمَامَ اللهِ؟  بَلْ شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ أَيْضًا جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ. فَلاَ تَخَافُوا! أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ! وَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنِ اعْتَرَفَ بِي قُدَّامَ النَّاسِ، يَعْتَرِفُ بِهِ ابْنُ الإِنْسَانِ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ. }(لو ١٢: ٦-٨). نحن نحتاج الي الشجاعة العملية { في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله… في ضيقات كثيرة… في صبر كثير} (2 كو ٦:٤). 

+  الجدية الروحية في الكتاب المقدس

يحذّر الكتاب من التراخي والكسل {مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة}( اف ٥:١٦). والرب يسوع المسيح شبّه الملكوت بالعذارى الحكيمات اللواتي استعددن بالزيت بجدية ويقظة روحية (متى 25). الجدية الروحية مرتبطة بالسهر والصلاة لخلاص النفس { اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة} (مت ٤٢:٢٦).

+ الشجاعة في فكر آباء الكنيسة

القديس أثناسيوس الرسولي: رأى أن الشجاعة عطية من الروح القدس التي تثبّت المؤمن في مواجهة الهرطقات والاضطهاد. ويؤكد القديس يوحنا ذهبي الفم على أن "الجدية في الحياة المسيحية تحفظ النفس من التشتت، وتجعلها تسلك بشجاعة في الطريق الضيق المؤدي إلى الحياة". والقديس باسيليوس الكبير: أكد أن الشجاعة لا تعني التهور، بل ضبط النفس المقترن بالحكمة.

ثانياً: الشجاعة والجدية في علم النفس

* يرى علماء النفس الإيجابي أن الشجاعة من أعمدة الفضائل الإنسانية، إذ تساعد الفرد على مواجهة المخاوف والضغوط، وتمنحه مرونة نفسية.

* الجدية والانضباط ترتبطان بما يسميه علماء النفس بـ "التحكم الذاتي" (Self-control) و"الوعي الذاتي" (Self-awareness)، وهما من عوامل الصحة النفسية والنجاح.

* دراسات السلوك أكدت أن الأشخاص الذين يمارسون الانضباط الداخلي والشجاعة والجدية يحققون مستويات أعلى من السعادة والإنجاز.

ثالثاً: أمثلة من حياة رجال الله وقادة الإيمان

* الرسل والتلاميذ: أعلنوا كلمة الحق بشجاعة وإيمان راسخ رغم التهديدات والصعوبات وبذلوا حياتهم لنشر الإيمان.

* القديس مارمرقس الرسول: بشّر في بلادنا مصر رغم عدم وجود أمكانيات مادية معه ورغم الأخطار حتى اسس كنيستها ونال إكليل الشهادة.

* القديس أثناسيوس الرسولي: صمد ضد الأريوسية وحده تقريبًا، واستطاع أن يثبت الإيمان المستقيم ولقّب بـ "اثناسيوس ضد العالم".

* وكمثال معاصر للشجاعة في مواجة الظلم نيلسون مانديلا فقد واجه الظلم والتمييز العنصرى في شجاعة مقترنة بضبط النفس والمصالحة حتى نال التحرر لبلاده وشعبه من نظام الفصل العنصرى 

رابعاً: التخلص من الخوف

+ إن الخوف من أكبر العوائق أمام النمو الروحي والإنساني، بينما الشجاعة الروحية فضيلة أساسية تجعل المؤمن ثابتًا في الحق ومُتّكلًا على الله. لذلك يجب ان نتخذ خطوات عملية وروحية للتغلب علي الخوف واقتناء الشجاعة الروحية

* الثقة في حضور الله: يقول الكتاب: { لا تخف لأني معك } (إش 41: 10). سر الشجاعة الروحية ليس في قوتنا بل في وعيّنا أن الله معنا.

* والمحبة الكاملة تطرد الخوف (1 يو 4: 18): فكلما ازداد قلبنا محبة لله، ضعف سلطان الخوف.

* القدوة في المسيح نفسه في بستان جثسيماني صلى قائلاً: {لتكن لا إرادتي بل إرادتك}(لو 22: 42). هذه الطاعة والشجاعة هي النموذج الأعلى الذي اقتدى به القديس أثناسيوس الرسولي حين وقف أمام الأباطرة لم يتزعزع، لأنه كان يرى أن قوة الحق أعظم من قوة العالم. لهذا قال القديس يوحنا ذهبي الفم قال: "من يتكل على الله لا يخاف شيئًا، حتى ولو ارتجّت المسكونة بأكملها." والقديس أنطونيوس الكبير في تجاربه الكثيرة مع الشياطين لم يخَف، لأنه كان يرفع قلبه لله ويثق أن قوة المسيح داخله أقوى من كل قوة مضادة.

 * ان كان الخوف هو رد فعل في مواقف الخطر ، لكن نتغلب عليه بالوعي والتدريب ومواجهة الأفكار المخيفة بمواجهتها لا بالهروب منها فالنفس البشرية تكتسب الشجاعة بالاختبار العملي والصلاة والثقة في الله  والعمل معه برجاء في النصرة به ومعه  {شُكْرًا ِللهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. }(٢ كو ٢: ١٤).

خامساً: كيف نقتني الشجاعة الروحية عمليًا؟

* الإيمان العميق: كلما نمت ثقتنا أن حياتنا في يد الله، يقل الخوف.

* الصلاة اليومية: نطلب مع داود "في يوم خوفي أنا عليك أتكل" (مز 56: 3).

* الممارسة الروحية: سرّ التناول والاعتراف يمنحان قوة وسلامًا داخليًا.

* التدرّب على قول الحق بمحبة حتى لو رفضه الآخرون.

* تذكر أمانة الله السابقة: مراجعة تدخلاته معنا في الماضي تقوي القلب.

* صحبة المؤمنين الأقوياء: الصحبة الروحية الصالحة تبني وتشجع.

+ إن الشجاعة ليس غياب الخوف، بل الثبات في مواجهة الخوف بالاتكال على الله ونقتنيها بالصلاة، وبكلمة الله، وعيش المحبة، وبالتدريب العملي لمواجهة التحديات بثقة أن المسيح هو قوتنا ونصرتنا.

الشجاعة تحررنا من الخوف، والجدية تحفظنا من الفتور، وهما معًا من ركائز الحياة المسيحية المثمرة. إن المسيحي الذي يسلك بالشجاعة وضبط النفس والجدية يصبح شهادة حية لعمل نعمة الله في العالم.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس

* القديس يوحنا ذهبي الفم، العظات على إنجيل متى.

* القديس أثناسيوس الرسولي، "ضد الأريوسيين".

* القديس باسيليوس الكبير، الرسائل الروحية.

* Thomas Aquinas, Summa Theologica, Virtues.

* Peterson, C., & Seligman, M. E. P. (2004). Character Strengths and Virtues: A Handbook and Classification.

* Frankl, Viktor. Man’s Search for Meaning.

* حياة القديس مارمرقس الرسول والقديس أثناسيوس، السنكسار

الأربعاء، 3 ديسمبر 2025

البساطة المقترنة بالحكمة - ٤٨

 البساطة المقترنة بالحكمة - ٤٨


تُعَدُّ البساطة إحدى الفضائل المسيحية الأصيلة التي تدعو إلى عيش الحياة بلا تعقيد أو التواء وبدون رياء، في صدقٍ وصفاء القلب، ولكن البساطة تحتاج إلي الحكمة حتى لا تتحول إلى سذاجة أو سطحية. فالبساطة الإنجيلية ليست ضعفًا في الفكر، بل هي نقاوة القلب المنفتح على الله والناس، والممتزج بالفطنة الروحية والتمييز.

اولاً: البساطة في الكتاب المقدس وفكر الاباء

* يدعونا الكتاب المقدس للبساطة { سيروا في بساطة، وامشوا في أمان}(أم ١٠:٩).  ويُعلّم أن تقترن البساطة بالحكمة فبدون حكمة قد ينخدع { اللبسيط يصدق كل كلمة، أما الذكي فينتبه إلى خطواته}(أم ١٤:١٥). 

* السيد المسيح اوصانا بالبساطة المقرونة بالحكمة { كونوا حكماء كالحيات وبسطاء كالحمام ( مت ١٠:١٦). أي نجمع بين النقاوة والحكمة والتمييز. ويريد منا ان نكون بسطاء نبتعد عن الشر { سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا،  وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ!} (مت ٦: ٢٢، ٢٣)

* ولهذا فان القديس بولس الرسول يمدح المؤمنين في كورنثوس قائلاً: { أفرح أنكم بسطاء في الشر، ولكن حكماء في الخير}( ١كو ١٤:٢٠). ومدح الرسول البساطة والاخلاص في التصرف المملوء نعمة من الله {لأَنَّ فَخْرَنَا هُوَ هذَا: شَهَادَةُ ضَمِيرِنَا أَنَّنَا فِي بَسَاطَةٍ وَإِخْلاَصِ اللهِ، لاَ فِي حِكْمَةٍ جَسَدِيَّةٍ بَلْ فِي نِعْمَةِ اللهِ، تَصَرَّفْنَا فِي الْعَالَمِ، وَلاَ سِيَّمَا مِنْ نَحْوِكُمْ. (٢ كو ١: ١٢) ولهذا يدعونا للحكمة لئلا يفسد ابليس بساطتنا {وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ.} (٢ كو ١١: ٣).

 + البساطة في فكر آباء الكنيسة

* يطلب منا القديس الأنبا أنطونيوس البساطة الممزوجة بالحكمة " البساطة تحفظ الإنسان في محبة الله، والحكمة تحفظ المؤمن من خداع الشياطين".

* ويري القديس يوحنا الذهبي الفم أن البساطة هي “شفافية القلب” أي العيش بلا نفاق أو التواء، لكنها لا تعني السذاجة بل “التمييز مع النقاوة”.

* ويميز القديس أغسطينوس بين البساطة المسيحية والسذاجة قائلاً: “البساطة فضيلة، أما السذاجة فجهل، والله لم يدعنا إلى الجهل بل إلى نور الحكمة.”

* ويؤكد القديس باسيليوس الكبير أن البساطة تجعل الإنسان محبوبًا عند الله والناس لأنها صورة من صفاء القلب.

ثانياً: البساطة في علم النفس البشري

علم النفس يفرّق بين البساطة الصحية (Healthy simplicity) التى هي العيش في وضوح داخلي، والتعبير الصادق عن الذات، وتعكس شخصية متزنة قادرة على اتخاذ قرارات مباشرة بلا التواء. والسذاجة (Naivety). التى هي نقص في الوعي أو الفطنة، تجعل الإنسان عرضة للاستغلال. فالبساطة الناضجة ترتبط بالصدق، والقدرة على بناء علاقات إنسانية أصيلة خالية من التعقيد النفسي والعقد، وترتبط بما يسميه علماء النفس "الذكاء العاطفي" حيث يجمع الإنسان بين القلب البسيط والعقل الواعي.

ثالثاً: نماذج من حياة القديسين

* القديس الأنبا باخوميوس: بالرغم من بساطته الفائقة في التعامل مع الرهبان، كان حكيمًا في تنظيم الشركة الرهبانية الأولى.

* القديس البابا كيرلس السادس: معروف بصلاته البسيطة العميقة، وفي نفس الوقت تميّز بحكمة روحية جعلته مرشدًا روحياً للشعب يتمتع بروحانية وشفافية.

رابعاً: كيف نحيا البساطة بلا تعقيد ولا سذاجة؟

* الاتحاد بالمسيح: أن تكون حياتنا مخفية في المسيح، فنعيش بصفاء القلب { مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. (غلا ٢: ٢٠).

* الصدق مع الذات والآخرين: لا نخفي نوايانا بل نتعامل بنقاء. { لأَنَّ: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يُحِبَّ الْحَيَاةَ وَيَرَى أَيَّامًا صَالِحَةً، فَلْيَكْفُفْ لِسَانَهُ عَنِ الشَّرِّ وَشَفَتَيْهِ أَنْ تَتَكَلَّمَا بِالْمَكْرِ، }(١ بط ٣: ١٠)

* التمييز الروحي: الصلاة وقراءة الكتاب المقدس تعطيان الإنسان بصيرة لئلا تخدعه المظاهر.

* التواضع: البسيط الحقيقي لا يتكبر ولا يتصنع.

* الابتعاد عن التعقيد النفسي: عدم تحميل الأمور أكثر مما تحتمل.

* الحكمة في التعامل: استخدام العقل والتمييز في مواجهة المواقف، فلا نسمح لاحد باستغلال بساطتنا في المسيح من أجل خداعنا بالشر والمكر.

خامساً: أشكال وأنواع البساطة في حياتنا

* البساطة في الفكر: التفكير المباشر بلا تعقيد زائد.

* البساطة في العلاقات: التعامل بمحبة وصدق بعيدًا عن النفاق.

* البساطة في العبادة: الصلاة بكلمات قليلة لكن من قلب صادق.

* البساطة في العطاء: تقديم المحبة والخير بلا حساب أو انتظار مقابل.

* البساطة في المظهر والحياة اليومية: الاكتفاء بما هو ضروري دون تكلف أو تظاهر.

البساطة المقترنة بالحكمة هي الطريق الإنجيلي للحياة المسيحية المتوازنة بقلب نقي بلا رياء، وعقل واعٍ مميّز. البساطة هي فضيلة تجعل الإنسان قريبًا من الله، محبوبًا من الناس، وسعيدًا في ذاته. فمن يسلك بهذه الروح يعيش حرًا من التعقيد والعقد، وفي الوقت ذاته محميًا من السذاجة والانخداع.

القمص أفرايم الانبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس 

* يوحنا ذهبي الفم، عظات على إنجيل متى.

* القديس أغسطينوس، الاعترافات.

* باسيليوس الكبير، رسائل روحية.

* أنطونيوس الكبير، أقوال الآباء.

* وليم جيمس، مبادئ علم النفس.

* كارل يونغ، البنية النفسية للإنسان.

الصلاح والاستقامة - ٤٧

 الصلاح والاستقامة - ٤٧ 


يُعدّ الصلاح والاستقامة من أسمى القيم الروحية والأخلاقية التي دعا إليها الكتاب المقدس وأكد عليها آباء الكنيسة الأرثوذكسية. فهما يعكسان صورة الله في الإنسان، ويقودا المؤمن إلى حياة القداسة والشركة مع الله. وقد شغلت هذه الفضائل حيّزاً كبيراً حتى في الفلسفة القديمة، وفي علم النفس الحديث يربط ما بين الاستقامة والصحة والنضج الإنساني.

اولاً: الصلاح والاستقامة في الكتاب المقدس

+ الصلاح هو ثمرة الروح القدس (غلا 5: 22)، ويشير إلى الميل العميق لفعل الخير والرحمة والإحسان.

ويصف الكتاب المقدس الله بانه صالح ومستقيم لذلك يعلمنا طرقه { الرب صالح ومستقيم لذلك يعلّم الخطاة الطريق} (مز 25: 8). والصلاح مرتبط بالبر والمحبة، ويظهر في أفعال عملية مثل الرحمة والعدل والتقوى.

+ أما الاستقامة تعني النزاهة، الثبات على الحق، ورفض المكر والاعوجاج. يقول الكتاب أن منهج المستقيمين هو الحيدان عن الشر { مَنْهَجُ الْمُسْتَقِيمِينَ الْحَيَدَانُ عَنِ الشَّرِّ. حَافِظٌ نَفْسَهُ حَافِظٌ طَرِيقَهُ. }(ام ١٦: ١٧) وبر المستقيمين ينجيهم {بِرُّ الْمُسْتَقِيمِينَ يُنَجِّيهِمْ، أَمَّا الْغَادِرُونَ فَيُؤْخَذُونَ بِفَسَادِهِمْ.} (ام ١١: ٦). الاستقامة تُعبّر عن وحدة الفكر والقلب مع العمل، بحيث أن يكون الإنسان صادقاً مع الله ومع ذاته ومع الآخرين.

ثانياً: الصلاح والاستقامة في فكر الآباء 

* يؤكد القديس أثناسيوس أن الصلاح ليس مجرد فضيلة أخلاقية بل هو اتحاد بالله مصدر كل صلاح.

* ويربط القديس يوحنا الذهبي الفم بين الصلاح والرحمة العملية، قائلاً: «لا يُحسب الإنسان صالحاً إذا اكتفى بالفضائل الداخلية، بل إذا ترجمت فضائله إلى خدمة الفقراء والمحتاجين».

* ويشدد الانبا أنطونيوس الكبير على الاستقامة الداخلية قائلاً: «كما أن الثوب الأبيض النقي يُظهر بقعة صغيرة، هكذا القلب المستقيم لا يحتمل خداعاً ولو بسيطاً». وقد ربط آباء البرية بين الاستقامة والبساطة فالإنسان المستقيم لا يعرف المكر أو الازدواجية.

ثالثاً: الصلاح والاستقامة في الفلسفة وعلم النفس

* في الفلاسفة اليونان رأى أفلاطون أن الصلاح هو "الخير الأسمى" وهو غاية الفلسفة، وأن النفس الفاضلة تميل بطبعها إلى الخير. وركز أرسطو على "الفضيلة الوسطية"، معتبراً أن الصلاح يعني العيش بحسب العقل والفضيلة.

* الفكر المسيحي الفلسفي للقديس أوغسطينوس وتوما الأكويني يدمج بين الحكمة والإعلان الإلهي، مؤكداً أن الله هو الخير المطلق، وأن الاستقامة هي مطابقة الإرادة البشرية لإرادة الله.

* وفي علم النفس الإيجابي، تُعتبر النزاهة والاستقامة من أهم مقومات الشخصية الناضجة والمتوازنة. فيرى كارل روجرز أن "التطابق" بين الداخل والخارج أساس الصحة النفسية، وهو ما يوازي الاستقامة الروحية. وتربط أبحاث السلوك الإيجابي بين الصلاح ومستويات أعلى من السعادة والرضا النفسي، وتظهر أن الأشخاص الصالحين أكثر قدرة على بناء علاقات إنسانية مستقرة.

رابعاً: أمثلة لرجال الله القديسين المشهورين بالصلاح والاستقامة

* أيوب الصديق: شهد عنه الكتاب أنه «كان كاملاً ومستقيماً يتقي الله ويحيد عن الشر» (أي ١:١).

* يوسف الصديق: مثال للاستقامة في نقاوة القلب ورفض الخطية، رغم التجارب القاسية.

* القديس أثناسيوس الرسولي: قاوم البدع والأريوسية بثبات واستقامة، حتى نُفي مرات عديدة لكنه لم يحِد عن الإيمان.

خامساً: كيف ننمو في الصلاح والاستقامة؟

* الثبات في المسيح: بالاتحاد بالمسيح من خلال الصلاة والأسرار نقتني الصلاح الذي هو عطية الروح القدس.

* التمسك بالوصية: كلمة الله هي النور الهادي لطريق الاستقامة (مز ١٠٥:١١٩). 

* الجهاد ضد الذات: رفض الأنانية والبعد عن الشر والالتصاق بالخير والبذل يقود الي الاستقامة.

* الأعمال الصالحة: العطاء، خدمة الآخرين، الرحمة، ومساندة المظلومين.

* الإرشاد الروحي: الخضوع لتلمذة روحية على يد مرشد حكيم يساعد على النمو المتوازن.

* التدرّب النفسي: بالوعي الذاتي وضبط النفس وتنمية النزاهة في الفكر والقرار.

الصلاح والاستقامة ليسا مجرد فضيلتين أخلاقيتين، بل هما تعبير عن الاتحاد بالله والعيش في حضرته. ومن خلالهما يشهد المسيحي للعالم أن النور أقوى من الظلمة، وأن الحياة مع الله هي حياة الحق والخير.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع 

* الكتاب المقدس 

* أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.

* يوحنا الذهبي الفم، العظة على التطويبات.

* أنطونيوس الكبير، أقوال الآباء (Apophthegmata Patrum).

* القمص تادرس يعقوب ملطي، تفسير أسفار الكتاب المقدس.

* يوسف حبيب، آباء البرية.

* Plato, The Republic.

* Aristotle, Nicomachean Ethics.

* Carl Rogers, On Becoming a Person.

* Martin Seligman, Authentic Happiness.

الجمال ومفهومه الروحي - ٤٦

 الجمال ومفهومه الروحي - ٤٦

للجمال في الكتاب المقدس مفهوم روحي عميق فهو ليس فقط في الطبيعة أو في الجسد، بل في الروح والأعمال فيتجاوز المظهر الخارجي ليصل إلى الجوهر، حيث يرى الفكر المسيحي أن الجمال الحقيقي هو انعكاس لمجد الله وصورته في الإنسان والخليقة. 


أولاً:  مفهوم الجمال في الكتاب المقدس وفكر الآباء 

١- الجمال في الله نفسه

 إن الله هو مصدر كل جمال، لأنه "البارع في جماله" (مز 45: 2). كل بهاء في الخليقة هو ظل ضعيف يعكس { بهاء مجده ورسم جوهره} (عب 1: 3). لذلك فالمسيحية ترى أن كل جمال أرضي يقود العين والعقل إلى إدراك الجمال الإلهي غير المحدود.

٢- الجمال في الإنسان

 خُلق الله الإنسان على {صورة الله ومثاله"} (تك 1: 27). وبعد أن خلق الله الإنسان { رَأَى اللهُ كُلَّ مَا عَمِلَهُ فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا. }(تك ١: ٣١) وبالتالي فالانسان  يحمل في داخله البهاء الإلهي. وجماله لا يُقاس بالمظهر الجسدي، بل بنقاوة القلب: {الحُسن غِش والجمال باطل، أما المرأة المتقية الرب فهي تُمدح} (أم 31: 30). الفضائل الروحية مثل المحبة، الوداعة، الطهارة، والقداسة  هي التي تُكسب الإنسان الحسن الحقيقي والبهاء الروحي. لذلك يوصى الكتاب النساء بالاهتمام بجمال ووداعة الروح {وَلاَ تَكُنْ زِينَتُكُنَّ الزِّينَةَ الْخَارِجِيَّةَ، مِنْ ضَفْرِ الشَّعْرِ وَالتَّحَلِّي بِالذَّهَبِ وَلِبْسِ الثِّيَابِ، بَلْ إِنْسَانَ الْقَلْبِ الْخَفِيَّ فِي الْعَدِيمَةِ الْفَسَادِ، زِينَةَ الرُّوحِ الْوَدِيعِ الْهَادِئِ، الَّذِي هُوَ قُدَّامَ اللهِ كَثِيرُ الثَّمَنِ.} (١ بط ٣: ٣، ٤).

٣- الجمال في الخليقة

 الخليقة كلها تشهد لمجد الله وبهائه { السماوات تُحدث بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه}(مزمور 19: 1). فعندما نرى الأشجار والورود في جمالها وزنابق الحق في رونها نسبح الله الخالق الأعظم { وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِاللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ الْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو! لاَ تَتْعَبُ وَلاَ تَغْزِلُ. وَلكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلاَ سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. }(مت ٦: ٢٨، ٢٩). فالطبيعة بجمالها وتناسقها ترفع فكر الإنسان نحو خالقها، فتجعله يسبح عظمة الله. المسيحية تفرّق بين التمتع بالجمال الطبيعي وبين عبادة المخلوقات، فهي تدعو إلى النظر عبر الجمال لا التوقف عنده.

٤- البهاء في المسيح

ربنا يسوع المسيح هو الأبرع جمال في محبته وفدائه وبهائه { أَنْتَ أَبْرَعُ جَمَالاً مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. انْسَكَبَتِ النِّعْمَةُ عَلَى شَفَتَيْكَ، لِذلِكَ بَارَكَكَ اللهُ إِلَى الأَبَدِ.} (مز ٤٥: ٢). وفي التجلي ظهر مجد المسيح حيث { أضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور} (مت 17: 2). بهاء المسيح هو المثال الأعلى للجمال الروحي الذي يُنير لنا الطريق ونعيش معه مذاقة الملكوت.

٥- أقوال الآباء عن الجمال

* يقول القديس اثناسيوس الرسولى" المسيح هو بهاء الآب، الذى في نوره نعاين النور."

* ويقول القديس أغسطينوس: "تأخرت في محبتك، أيها الجمال القديم الجديد."

* اما القديس باسيليوس الكبير فيقول "الجمال الذي في الخليقة هو دعوة إلى معرفة الخالق."

ثانياً : المفهوم النفسي والروحي

+ يربط علم النفس المسيحي بين الجمال والانسجام الداخلي، فالشخص المتصالح مع الله ونفسه يظهر في سلامه ووجهه إشراق خاص. والجمال الداخلي يولد السعادة الحقيقية، بينما الاعتماد فقط على المظاهر يقود إلى الفراغ وعدم الرضا. والبهاء الروحي يعطي للإنسان حضوراً مشرقاً حتى إن لم يكن مميزاً في ملامحه الجسدية. فالجمال هو إشراق الله في الإنسان والخليقة، والحُسن هو فضيلة القلب النقي، والبهاء هو مجد الله الذي ينعكس على حياة المؤمن. المظهر الخارجي قد يزول، أما الجمال الروحي فهو أبدي، يكتمل في السماء حيث يعاين المؤمنون وجه الله في مجده.

+ يوضح علم النفس الحديث يوضح أن إدراك الجمال له دور مهم في رفع الحالة النفسية فالنظر إلى الطبيعة أو الفن الجميل يخفّض التوتر ويزيد الشعور بالسلام الداخلي. والتأمل في مظاهر الجمال حولنا ينمي القيم الإيجابية ويربط الإنسان بالمشاعر السامية كالامتنان والرحمة. ويعزز العلاقات مشاركة لحظات الجمال مع الآخرين كالإعجاب بمشهد طبيعي أو موسيقى يقوّي الروابط الإنسانية. كما يرى علم النفس الإيجابي أن "حس الجمال" من مصادر السعادة والرضا بالحياة، وهو مرتبط بالقدرة على التأمل والشكر.

+ عندما يعيش الإنسان منفتحًا على الجمال الروحي والإنساني، يرتفع فوق هموم الحياة ويقترب من مصدر السعادة الحقيقية. الجمال يحرر القلب من الأنانية، ويفتحه على الحب والعطاء، لأنه يعكس نور الله في النفس.

ثالثاً:  جمال السماء كما يصفه سفر الرؤيا

 يقدّم سفر الرؤيا لوحة سماوية مملوءة بالجمال الفائق:

عن السماء { المدينة... نقية كالبلور} (رؤ 21: 11). 

{ وَأَنَا يُوحَنَّا رَأَيْتُ الْمَدِينَةَ الْمُقَدَّسَةَ أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةَ نَازِلَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُهَيَّأَةً كَعَرُوسٍ مُزَيَّنَةٍ لِرَجُلِهَا.} (رؤ٢١: ٢). { وكان بناء سورها يشبه يشبًا، والمدينة ذهب نقي شبه زجاج نقي}(رؤ 21: 18). { وكان أساس السور مزينًا بكل حجر كريم} (رؤ 21: 19). { وشارع المدينة ذهب نقي كزجاج شفاف} (رؤ 21: 21). هذا الوصف لا يركّز على الجمال المادي فقط، بل على الجمال الروحي والقداسة حيث لا موت ولا وجع { وَسَيَمْسَحُ اللهُ كُلَّ دَمْعَةٍ مِنْ عُيُونِهِمْ، وَالْمَوْتُ لاَ يَكُونُ فِي مَا بَعْدُ، وَلاَ يَكُونُ حُزْنٌ وَلاَ صُرَاخٌ وَلاَ وَجَعٌ فِي مَا بَعْدُ، لأَنَّ الأُمُورَ الأُولَى قَدْ مَضَتْ». وَقَالَ الْجَالِسُ عَلَى الْعَرْشِ: «هَا أَنَا أَصْنَعُ كُلَّ شَيْءٍ جَدِيدًا!». وَقَالَ لِيَ: «اكْتُبْ: فَإِنَّ هذِهِ الأَقْوَالَ صَادِقَةٌ وَأَمِينَةٌ». }(رؤ ٢١: ٤، ٥). السماء كمال الجمال لأنها حضور الله الدائم { هوذا مسكن الله مع الناس} (رؤ 21: 3).{ { أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ، الآنَ نَحْنُ أَوْلاَدُ اللهِ، وَلَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَاذَا سَنَكُونُ. وَلكِنْ نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ. وَكُلُّ مَنْ عِنْدَهُ هذَا الرَّجَاءُ بِهِ، يُطَهِّرُ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ طَاهِرٌ.}(١ يو ٣: ٢، ٣)

+ الجمال في الفكر المسيحي ليس مجرد زينة خارجية، بل هو إشراق حضور الله في الخليقة والإنسان. الكتاب المقدس والآباء وعلم النفس يتفقون على أن الجمال يرفع النفس ويمنحها السعادة الحقيقية. والجمال السماوي هو الامتلاء النهائي حيث نعاين الله وجهًا لوجه، ونحيا في نور جماله الأبدي.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

المراجع

* الكتاب المقدس

* القديس أغسطينوس، الاعترافات.

* القديس باسيليوس الكبير، عن الروح القدس.

* يوحنا ذهبي الفم، العظات على إنجيل متى.

* أنطونيوس فكري، تفسير سفر الرؤيا.

* C.S. Lewis, The Weight of Glory.

* Thomas Aquinas, Summa Theologica (عن الجمال والخير).

* Positive Psychology Journals on beauty and well-being.