طول الأناة وحياتنا العملية - ٥١
طول الأناة هى فضيلة الاحتمال والحكمة في وجه الغضب. وكلمة "الأناة" في اللغة العربية مأخوذة من الجذر (أ ن ى) وتعني التمهّل والتروّي وضبط النفس أمام الانفعال والعجلة. ويُقال: "أنى الرجل" أي تأنّى وتريّث. وفي اليونانية (لغة العهد الجديد) تُترجم كلمة طول الأناة إلى makrothymia، وهي مركّبة من "makros" (طويل) و"thymos" (نفس أو انفعال)، وتشير إلى «طول النفس» أو «القدرة على الاحتمال دون انفجار الغضب». أما في اللاتينية فتقابلها كلمة longanimitas، التي تعني الاستمرار في الخير مع الصبر أمام الشرور.
اولاً : طول الأناة في الكتاب المقدس
الكتاب المقدس يصف الله بأنه طويل الأناة أي صبور ورحيم { الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، طَوِيلُ الرُّوحِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ} (مز 103: 8). ويتعامل الله معنا بطول الأناة والصبر والاحتمال حتى مع أهل نينوى البعيدين عن الله ارسل لهم يونان النبي ليحذرهم ويدعوهم للتوبة وعاتب يونان النبي قائلاً { أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ الَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلاَ رَبَّيْتَهَا، الَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رِبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ؟».} (يو ٤: ١٠، ١١).
وفي العهد الجديد يعاملنا الله بطول أناه ولا يجب علينا نستهين بغنى لطف الله { أَمْ تَسْتَهِينُ بِغِنَى لُطْفِهِ وَإِمْهَالِهِ وَطُولِ أَنَاتِهِ، غَيْرَ عَالِمٍ أَنَّ لُطْفَ اللهِ إِنَّمَا يَقْتَادُكَ إِلَى التَّوْبَةِ؟ وَلكِنَّكَ مِنْ أَجْلِ قَسَاوَتِكَ وَقَلْبِكَ غَيْرِ التَّائِبِ، تَذْخَرُ لِنَفْسِكَ غَضَبًا فِي يَوْمِ الْغَضَبِ وَاسْتِعْلاَنِ دَيْنُونَةِ اللهِ الْعَادِلَةِ، الَّذِي سَيُجَازِي كُلَّ وَاحِدٍ حَسَبَ أَعْمَالِهِ.} (رو ٢: ٤-٦) فطول أناة الله لرحمته علينا لنتوب. وطول الأناة هى من ثمار الروح القدس لدى المؤمنين الذين يجاهدوا ويطيعوا روح الله { وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ...} (غل 5: 22). ويشجعنا الرسول بولس على التحلي بها في مواجهة الناس { فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا.} (كو ٣: ١٢، ١٣). فطول الأناة فضيلة تجعلنا نقتدى ونتمثل بالله، لأنها تعكس صبر الله على البشر.
ثانيا: طول الأناة في فكر وأقوال الآباء
١- يعلمنا القديس الأنبا انطونيوس بأن " طول الأناة يطرد الغضب، والإنسان الطويل الأناة هو أناء للروح القدس".
٢- يقول القديس يوحنا الذهبي الفم «ليس شيء يجعل الإنسان شبيهًا بالله مثل طول الأناة، لأن الله يشرق بشمسه على الأشرار والأبرار معًا». ويضيف أن طول الأناة هو «قوة روحية تكبح الغضب وتمنع اللسان من الانفعال».
٣- ويرى القديس أغسطينوس أن طول الأناة هو «محبة في شكلها العملي»، أي الصبر في مواجهة الإساءة. ويقول «من يحب حقًا لا يثور سريعًا، لأنه يرى المسيح في من يسيء إليه».
٤- القديس يوحنا كاسيان
اعتبر أن طول الأناة لا تعني السلبية بل «قوة ضبط للنفس» وتُظهر حكمة داخلية وسلامًا قلبيًا. إذن في فكر الآباء، طول الأناة هي ثمرة الجهاد الداخلي ضد الغضب، وهي تاج الوداعة والتواضع.
ثالثاً : طول الأناة في علم النفس
من منظور علم النفس الحديث، طول الأناة يعادل ما يُعرف اليوم بـ التحكم في الانفعالات (Emotional Regulation) والذكاء الانفعالي (Emotional Intelligence). كما يشير علماء النفس مثل دانييل جولمان إلى أن الأشخاص القادرين على تأجيل الانفعال والسيطرة على ردود أفعالهم هم أكثر نجاحًا في العلاقات والعمل. والصبر وضبط النفس مما يخفف من التوتر والقلق. كما أن طول الأناة تمنح فرصة للفهم العميق قبل الرد، مما يقلل من الندم على القرارات المتسرعة. وطول الأناة يساعد في بناء علاقات مستقرة وبيئة عمل متوازنة. ويُظهر علم الأعصاب أن الجزء المسؤول عن ضبط الانفعال هو قشرة الفص الجبهي، التي تنشط لدى الأشخاص الهادئين أكثر من الانفعاليين.
رابعاً :فوائد طول الأناة في عالم اليوم
في زمن يتّسم بالسرعة والعنف والتوتر، يصبح طول الأناة ضرورة إنسانية وأخلاقية:
* في العلاقات الأسرية: يمنع التصادم وتبني الحوار والمسامحة.
* في بيئة العمل: يساعد على التعامل مع الضغط والاختلاف دون انهيار.
* في الحياة الروحية: يحفظ النفس من الغضب والمرارة، ويقوّي الإيمان في التجارب.
* في المجتمع: ينمي ثقافة التسامح بدلاً من العنف، ويدعم السلام الداخلي والخارجي.
خامساً : كيف نقتني طول الأناة؟
* التأمل في صبر الله علينا: فكلما أدرك الإنسان كم يصبر الله عليه، سهل عليه أن يصبر على الآخرين.
* الصلاة وطلب المعونة الإلهية: لأن طول الأناة ليست مجهودًا بشريًا فقط، بل ثمرة الروح القدس.
* ممارسة الصمت والهدوء: التروي قبل الكلام أو التصرف ولو لدقائق يقينا شر الغضب والتهور ويجعلنا نتصرف بحكمة.
* تذكّر نتائج الغضب: إن «غضب الإنسان لا يصنع بر الله» (يع٢٠:١).
* التدريب على التسامح: كما قال المسيح: { وَلاَ تَدِينُوا فَلاَ تُدَانُوا. لاَ تَقْضُوا عَلَى أَحَدٍ فَلاَ يُقْضَى عَلَيْكُمْ. اِغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. }(لو ٦: ٣٧).
إن طول الأناة ليس ضعف بل قوة روحية ونفسية تعبر عن نضج الإنسان ومحبته وحكمته، وتجعل الإنسان يعيش السلام الداخلي وسط عالم اليوم الذي يعاني من القلق والصراع والتسرع ويعكس صورة الله الرحيم طويل الأناة في حياتنا وعلاقاتنا العملية.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
* الكتاب المقدس
* القديس يوحنا الذهبي الفم – العظات على رسالة أفسس، ترجمة المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائية.
* القديس أغسطينوس – مدينة الله، الكتاب التاسع عشر.
* يوحنا كاسيان – Conferences.
* الأب متى المسكين – فضيلة الصبر وطول الأناة في الحياة الروحية.
* دانييل جولمان – الذكاء العاطفي (Emotional Intelligence).
* إيفان بافلوف – الدوافع والانفعالات في السلوك الإنساني.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق