حياة التسليم - ٥٢
مفهوم حياة التسليم
حياة التسليم لله هي أن يثق المؤمن في الله ويسلّم ذاته وكل ظروفه بين يدي الله بثقة كاملة في حكمته وصلاحه، دون مقاومة أو خوف. وهذا لا يعني الاستسلام السلبي، بل اختيار حرّ واعٍ للإيمان بعناية الله التي تجعل كل الأشياء { تعمل معًا للخير للذين يحبون الله} (رو ٢٨:٨). وكما يقول القديس إسحق السرياني: “التسليم هو أن يُلقي الإنسان همومه على الله، كما يُلقي المريض نفسه في يد الطبيب الماهر دون جدال.”. إنها الثقة التي تجعل الإنسان يعيش في راحة داخلية عميقة، لأن من يعرف الله حقًا، لا يعود يخاف شيئًا، بل يرى يد العناية الإلهية في حياته دائماً.
أولاً: التسليم في الكتاب المقدس
في العهد القديم، نرى إبراهيم يعلمنا تسليم الحياة لله فعندما طُلب منه أن يقدم إسحق ذبيحة، لم يجادل ولم يسأل: لماذا؟ بل أطاع في صمت، لأنه كان قد سلّم إرادته بالكامل لله (تك٢٢). وقد شهد الله لإيمانه وقال له: {فَقَالَ: «لاَ تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى الْغُلاَمِ وَلاَ تَفْعَلْ بِهِ شَيْئًا، لأَنِّي الآنَ عَلِمْتُ أَنَّكَ خَائِفٌ اللهَ، فَلَمْ تُمْسِكِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي». }(تك ٢٢: ١٢). هذا هو التسليم الذي يرى الله من خلاله إيماننا العامل بالمحبة لا بالكلام بل بالفعل.
+ وفي العهد الجديد، نرى المثال الكامل في المسيح يسوع، إذ وجد في الهيئة كانسان وضع ذاته وأطاع وقال في بستان جثسيماني: { يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ. }(لو ٢٢: ٤٢). هذا هو قمة التسليم: أن يقبل الإنسان إرادة الآب حتى حين تمرّ به الكأس المرّة. وفيه تتحقق الثقة التي قال عنها المزمور: { سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي.}(مز ٣٧: ٥)
ثانياً: التسليم في فكر الآباء ..
عاش القديس الأنبا أنطونيوس الكبير حياة التسليم الكامل في البرية، لا يخزن شيئاً ليوم الغد، بل يعتمد كل يوم علي عناية الله وكان يقول لتلاميذه " من عرف الله لا يهتم بما يكون غداً، لأن الله موجود في الغد كما هو في اليوم". وهذا عاش الأنبا بولا في البرية مسلماً حياته بالتمام لله وكان الله يرسل له غراب بنصف خبزه يوميا ولما زاره الأنبا أنطونيوس أتى له الغراب بخبزة كاملة فالله الذي نسلم له حياتنا لن يخذلنا ابداً.
يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: “من يسلم نفسه لله، لا يخاف لا من مرضٍ ولا من ظلمٍ ولا من فقدانٍ، لأنه يعلم أن الرب يدبّر له الأفضل.” ويشرح القديس مار إسحق السرياني معنى حياة التسليم: “حين تثق بالله أكثر مما تثق بنفسك، حينئذٍ تكون قد دخلت في التسليم.”
ثالثاً : البعد النفسي في حياة التسليم
من منظور علم النفس المسيحي، التسليم هو التحرر من القلق الناتج عن الرغبة في السيطرة على كل شيء.
الإنسان الذي يعيش في القلق يعيش صراعًا بين “ما يريد أن يحدث” و”ما يسمح الله به أن يحدث”، بينما التسليم يوحد الإرادتين. ويشير الطبيب النفسي المسيحي فيكتور فرانكل إلى أن أعمق راحة للنفس تأتي من إيجاد “المعنى” في الألم، لا من الهروب منه.
والمؤمن الذي يسلّم لله، لا يسأل دائمًا "لماذا؟" بل يقول "لأجل ماذا؟" — أي ما هو قصد الله من هذا الحدث؟
حين نفهم أن حتى الألم قد يكون طريقًا للتطهير والنضوج، نبدأ نتذوق السلام الذي يفوق كل عقل.
رابعاً: كيف نحيا حياة التسليم عمليًا؟
* الصلاة الدائمة:
في كل أمر صغير أو كبير، علينا أن نثق في الله ونصلي ونقول: “لتكن مشيئتك يا رب”. كما صلّى المسيح نفسه.
* الإيمان بعناية الله في التفاصيل:
فالله لا يغفل عن “شعرة واحدة من رؤوسكم” (لو١٢:٧).
* التخلي عن الذات:
لا يمكن أن نعيش التسليم ونحن متمسكين بمشيئتنا الخاصة. لنصل إلى قول بولس الرسول: { مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي. }(غل ٢: ٢٠)
* التعلم من سير القديسين:
فهم أمثلة حيّة على من عاشوا التسليم. مثل القديسة مريم المصرية التي سلّمت حياتها بعد توبة عميقة فعاشت في البرية ٤٧ عام بسلام عجيب، والأنبا بولا أول السواح الذي لم يعرف القلق يومًا لأن ثقته كانت في عناية الله الكاملة.
خامساً : ثمار حياة التسليم الروحية
* السلام الذي يفوق كل عقل
فالذي سلّم أمره لله، لا يضطرب مهما اشتدت العواصف.
بل يحيا في سلام دائم رغم الظروف { وَسَلاَمُ اللهِ الَّذِي يَفُوقُ كُلَّ عَقْل، يَحْفَظُ قُلُوبَكُمْ وَأَفْكَارَكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.} (في ٤: ٧)
* الثقة الثابتة في وعود الله:
لأن من يعرف أن الله أمين، لا يخاف من المستقبل.
{ قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ».} (يو ١٦: ٣٣)
* التحرر من الكبرياء والأنانية:
لأن التسليم يعني الاعتراف بأن الله هو المدبر، لا أنا.
{ فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ، مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ.} (١ بط ٥: ٦، ٧)
* القداسة الداخلية والقدرة علي التعامل
حينما نترك الله يعمل فينا، ينقينا من شهواتنا وميولنا الفاسدة. ونستطيع أن نتعامل مع الآخرين ونحبهم دون خوف: لأن القلب المتكل علي الله لا يحتاج أن يثبت ذاته أمام أحد، بل يعيش بالحب والبساطة.
+ أننا نرى أناسًا بسطاء يعيشون التسليم بيننا في صمت، كأمٍّ أرملة تربي أبناءها علي الإيمان وتثق أن “الرب يدبر.” لانها اختبرت كيف يرسل الله معونة في الوقت المناسب، كما أرسل الغراب لإيليا في البرية (1مل ١٧:٦). هؤلاء لا تُكتب سيرهم في الكتب، لكنهم يعيشون في عمق الثقة اليومية بالله.
+ إن حياة التسليم هي الطريق إلى النضوج الروحي.
التسليم والأتكال علي الله لا يعني هروب من المسئولية، بل يعني أن نعمل ونجاهد، ولكن في سلام وثقة لأننا نعلم أننا في يد الله. فمن يسلم حياته لله، يعمل دون توتر، ويجتهد دون أن يتعلّق بالنتائج، مثل الفلاح الذي يعتمد علي المطر في الزراعة، يزرع ويبذل جهده، لكن المطر بيد الله. وكما قال احد الأباء "كل ما هو لي هو من الله، فإن أخذ مني شيئًا، فليكن اسمه مباركًا.” هكذا يُولد السلام الداخلي الذي يملأ القلب بنور السماء والراحة والثقة حتى وسط الألم بأن كل الأشياء تعمل معاً لخيرنا لأننا نحب الله.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع:
* الكتاب المقدس
* القديس إسحق السرياني، ميامر مار اسحق
* القديس يوحنا ذهبي الفم، عظات على المزامير.
* أقوال الأنبا أنطونيوس الكبير، بستان الرهبان .
* فيكتور فرانكل، الإنسان يبحث عن المعنى.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق