الشجاعة والجدية الروحية - ٤٩
الشجاعة والجدية الروحية من أهم الفضائل التي تدعم حياة المؤمن وتثبّته في طريق الملكوت. فالشجاعة تمنح المؤمن ثباتًا أمام التجارب والضيقات، بينما الجدية الروحية تحفظه من التراخي والفتور. وقد ارتبطت الفضيلتان معًا في الفكر الكتابي والآبائي بوصفهما أساسًا للنمو الروحي والسلوك المسيحي العملي.
اولاً: الشجاعة في الكتاب المقدس وفكر آباء الكنيسة
+ العهد القديم يوصى الله أُوصي بالشجاعة { تشدد وتشجع… لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب} (يش 1: 6-9). وداود أمام جليات يمثل نموذجًا للشجاعة الروحية المبنية على الثقة بالله (1 صم 17). يدعونا الكتاب إلي الثقة في الرب وعدم الخوف { لاَ تَخَفْ لأَنِّي مَعَكَ. لاَ تَتَلَفَّتْ لأَنِّي إِلهُكَ. قَدْ أَيَّدْتُكَ وَأَعَنْتُكَ وَعَضَدْتُكَ بِيَمِينِ بِرِّي.} (إش ٤١: ١٠)
+ وفي العهد الجديد يدعونا السيد المسيح إلي الثقة في الله وعدم الخوف { لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ. }(لو ١٢: ٣٢) ويشجعنا ويمنحنا الثقة والسلام بانه كما غلب العالم وابليس سيغلب بنا ومعنا { قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ».}(يو ١٦: ٣٣). لقد وهب السيد المسيح للمؤمنين به السلطان ليدسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو ووعدنا بان اسمائنا كتبت في السماوات لكى نسلك بشجاعة ولا نخاف حتى مما يقتلون الجسد { هَا أَنَا أُعْطِيكُمْ سُلْطَانًا لِتَدُوسُوا الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبَ وَكُلَّ قُوَّةِ الْعَدُوِّ، وَلاَ يَضُرُّكُمْ شَيْءٌ. وَلكِنْ لاَ تَفْرَحُوا بِهذَا: أَنَّ الأَرْوَاحَ تَخْضَعُ لَكُمْ، بَلِ افْرَحُوا بِالْحَرِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَكُمْ كُتِبَتْ فِي السَّمَاوَاتِ».} (لو١٠: ١٩، ٢٠). ووعدنا بالحفظ حتى لشعر رؤوسنا { أَلَيْسَتْ خَمْسَةُ عَصَافِيرَ تُبَاعُ بِفَلْسَيْنِ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا لَيْسَ مَنْسِيًّا أَمَامَ اللهِ؟ بَلْ شُعُورُ رُؤُوسِكُمْ أَيْضًا جَمِيعُهَا مُحْصَاةٌ. فَلاَ تَخَافُوا! أَنْتُمْ أَفْضَلُ مِنْ عَصَافِيرَ كَثِيرَةٍ! وَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنِ اعْتَرَفَ بِي قُدَّامَ النَّاسِ، يَعْتَرِفُ بِهِ ابْنُ الإِنْسَانِ قُدَّامَ مَلاَئِكَةِ اللهِ. }(لو ١٢: ٦-٨). نحن نحتاج الي الشجاعة العملية { في كل شيء نظهر أنفسنا كخدام الله… في ضيقات كثيرة… في صبر كثير} (2 كو ٦:٤).
+ الجدية الروحية في الكتاب المقدس
يحذّر الكتاب من التراخي والكسل {مفتدين الوقت لأن الأيام شريرة}( اف ٥:١٦). والرب يسوع المسيح شبّه الملكوت بالعذارى الحكيمات اللواتي استعددن بالزيت بجدية ويقظة روحية (متى 25). الجدية الروحية مرتبطة بالسهر والصلاة لخلاص النفس { اسهروا وصلّوا لئلا تدخلوا في تجربة} (مت ٤٢:٢٦).
+ الشجاعة في فكر آباء الكنيسة
القديس أثناسيوس الرسولي: رأى أن الشجاعة عطية من الروح القدس التي تثبّت المؤمن في مواجهة الهرطقات والاضطهاد. ويؤكد القديس يوحنا ذهبي الفم على أن "الجدية في الحياة المسيحية تحفظ النفس من التشتت، وتجعلها تسلك بشجاعة في الطريق الضيق المؤدي إلى الحياة". والقديس باسيليوس الكبير: أكد أن الشجاعة لا تعني التهور، بل ضبط النفس المقترن بالحكمة.
ثانياً: الشجاعة والجدية في علم النفس
* يرى علماء النفس الإيجابي أن الشجاعة من أعمدة الفضائل الإنسانية، إذ تساعد الفرد على مواجهة المخاوف والضغوط، وتمنحه مرونة نفسية.
* الجدية والانضباط ترتبطان بما يسميه علماء النفس بـ "التحكم الذاتي" (Self-control) و"الوعي الذاتي" (Self-awareness)، وهما من عوامل الصحة النفسية والنجاح.
* دراسات السلوك أكدت أن الأشخاص الذين يمارسون الانضباط الداخلي والشجاعة والجدية يحققون مستويات أعلى من السعادة والإنجاز.
ثالثاً: أمثلة من حياة رجال الله وقادة الإيمان
* الرسل والتلاميذ: أعلنوا كلمة الحق بشجاعة وإيمان راسخ رغم التهديدات والصعوبات وبذلوا حياتهم لنشر الإيمان.
* القديس مارمرقس الرسول: بشّر في بلادنا مصر رغم عدم وجود أمكانيات مادية معه ورغم الأخطار حتى اسس كنيستها ونال إكليل الشهادة.
* القديس أثناسيوس الرسولي: صمد ضد الأريوسية وحده تقريبًا، واستطاع أن يثبت الإيمان المستقيم ولقّب بـ "اثناسيوس ضد العالم".
* وكمثال معاصر للشجاعة في مواجة الظلم نيلسون مانديلا فقد واجه الظلم والتمييز العنصرى في شجاعة مقترنة بضبط النفس والمصالحة حتى نال التحرر لبلاده وشعبه من نظام الفصل العنصرى
رابعاً: التخلص من الخوف
+ إن الخوف من أكبر العوائق أمام النمو الروحي والإنساني، بينما الشجاعة الروحية فضيلة أساسية تجعل المؤمن ثابتًا في الحق ومُتّكلًا على الله. لذلك يجب ان نتخذ خطوات عملية وروحية للتغلب علي الخوف واقتناء الشجاعة الروحية
* الثقة في حضور الله: يقول الكتاب: { لا تخف لأني معك } (إش 41: 10). سر الشجاعة الروحية ليس في قوتنا بل في وعيّنا أن الله معنا.
* والمحبة الكاملة تطرد الخوف (1 يو 4: 18): فكلما ازداد قلبنا محبة لله، ضعف سلطان الخوف.
* القدوة في المسيح نفسه في بستان جثسيماني صلى قائلاً: {لتكن لا إرادتي بل إرادتك}(لو 22: 42). هذه الطاعة والشجاعة هي النموذج الأعلى الذي اقتدى به القديس أثناسيوس الرسولي حين وقف أمام الأباطرة لم يتزعزع، لأنه كان يرى أن قوة الحق أعظم من قوة العالم. لهذا قال القديس يوحنا ذهبي الفم قال: "من يتكل على الله لا يخاف شيئًا، حتى ولو ارتجّت المسكونة بأكملها." والقديس أنطونيوس الكبير في تجاربه الكثيرة مع الشياطين لم يخَف، لأنه كان يرفع قلبه لله ويثق أن قوة المسيح داخله أقوى من كل قوة مضادة.
* ان كان الخوف هو رد فعل في مواقف الخطر ، لكن نتغلب عليه بالوعي والتدريب ومواجهة الأفكار المخيفة بمواجهتها لا بالهروب منها فالنفس البشرية تكتسب الشجاعة بالاختبار العملي والصلاة والثقة في الله والعمل معه برجاء في النصرة به ومعه {شُكْرًا ِللهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ. }(٢ كو ٢: ١٤).
خامساً: كيف نقتني الشجاعة الروحية عمليًا؟
* الإيمان العميق: كلما نمت ثقتنا أن حياتنا في يد الله، يقل الخوف.
* الصلاة اليومية: نطلب مع داود "في يوم خوفي أنا عليك أتكل" (مز 56: 3).
* الممارسة الروحية: سرّ التناول والاعتراف يمنحان قوة وسلامًا داخليًا.
* التدرّب على قول الحق بمحبة حتى لو رفضه الآخرون.
* تذكر أمانة الله السابقة: مراجعة تدخلاته معنا في الماضي تقوي القلب.
* صحبة المؤمنين الأقوياء: الصحبة الروحية الصالحة تبني وتشجع.
+ إن الشجاعة ليس غياب الخوف، بل الثبات في مواجهة الخوف بالاتكال على الله ونقتنيها بالصلاة، وبكلمة الله، وعيش المحبة، وبالتدريب العملي لمواجهة التحديات بثقة أن المسيح هو قوتنا ونصرتنا.
الشجاعة تحررنا من الخوف، والجدية تحفظنا من الفتور، وهما معًا من ركائز الحياة المسيحية المثمرة. إن المسيحي الذي يسلك بالشجاعة وضبط النفس والجدية يصبح شهادة حية لعمل نعمة الله في العالم.
القمص أفرايم الأنبا بيشوى
المراجع
* الكتاب المقدس
* القديس يوحنا ذهبي الفم، العظات على إنجيل متى.
* القديس أثناسيوس الرسولي، "ضد الأريوسيين".
* القديس باسيليوس الكبير، الرسائل الروحية.
* Thomas Aquinas, Summa Theologica, Virtues.
* Peterson, C., & Seligman, M. E. P. (2004). Character Strengths and Virtues: A Handbook and Classification.
* Frankl, Viktor. Man’s Search for Meaning.
* حياة القديس مارمرقس الرسول والقديس أثناسيوس، السنكسار

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق