نص متحرك

♥†♥انا هو الراعي الصالح و الراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف يو 10 : 11 ♥†♥ فيقيم الخراف عن يمينه و الجداء عن اليسار مت32:25 ♥†♥ فلما خرج يسوع راى جمعا كثيرا فتحنن عليهم اذ كانوا كخراف لا راعي لها فابتدا يعلمهم كثيرا مر 34:6 ♥†♥ و اما الذي يدخل من الباب فهو راعي الخراف يو 2:10 ♥†♥

الخميس، 18 ديسمبر 2025

الهدوء والصمت وحياتنا الروحية- ٥٣

 الهدوء والصمت وحياتنا الروحية- ٥٣

+ الهدوء (peace/quiet): هو السكينةٌ الخارجية والداخلية التي تنشأ من الثقة بالله والسلام الداخلي وليست مجرّد غياب الضجيج. والصمت (silence): هو ضبط اللسان والحواس، والانتقال من ثرثرة الخارج إلى إنصات القلب. أما التأمّل (contemplation/meditation): فهو تركيزٌ يقظٌ على الله وكلمته، حتى يصير الذهن «بسيطًا» والروح «نقيّة»، فيثمر ذلك معرفة ومحبةلله والغير، وفي التراث المسيحي الشرقي يختزل هذا المنهج بكلمة الآباء، الهيسيكيا ἡσυχία أي السكينة المقدّسة التي تعني «سكونُ القلب أمام الله»؛ وهي جوهر الحياة الرهبانية القبطية منذ آباء البرية الأولين


أولًا: الكتاب المقدس والهدوء والتأمل

+ يدعونا الكتاب الي الهدوء والصمت والتأمل من أجل خلاصنا ولقوتنا الروحية ويقول :{ بِالرُّجُوعِ وَالسُّكُونِ تَخْلُصُونَ. بِالْهُدُوءِ وَالطُّمَأْنِينَةِ تَكُونُ قُوَّتُكُمْ.} ( إش ٣٠:١٥). ولقد سمع إيليا النبي صوت الله في الهدوء لا في الزلزلة او النار { وَبَعْدَ الزَّلْزَلَةِ نَارٌ، وَلَمْ يَكُنِ الرَّبُّ فِي النَّارِ. وَبَعْدَ النَّارِ صَوْتٌ مُنْخَفِضٌ خَفِيفٌ. فَلَمَّا سَمِعَ إِيلِيَّا لَفَّ وَجْهَهُ بِرِدَائِهِ وَخَرَجَ وَوَقَفَ فِي بَابِ الْمُغَارَةِ، وَإِذَا بِصَوْتٍ إِلَيْهِ يَقُولُ: «مَا لَكَ ههُنَا يَا إِيلِيَّا؟»} (١مل ١٩: ١٢، ١٣). ويدعوا الكتاب الي الصمت والتأمل في عظمة الخالق { كُفُّوا وَاعْلَمُوا أَنِّي أَنَا اللهُ. أَتَعَالَى بَيْنَ الأُمَمِ، أَتَعَالَى فِي الأَرْضِ. }(مز ٤٦: ١٠).  والحكيم يتعلم أن لكل أمر زمانه المناسب { لِكُلِّ أَمْرٍ زَمَانٌ… وَزَمَانٌ لِلسُّكُوتِ وَزَمَانٌ لِلتَّكَلُّمِ} ( جا ٧:٣)

+ وفي العهد الجديد نرى السيد المسيح ينسحب من بين الجموع ويختلي للصلاة والتأمل في هدوء { وَفِي الصُّبْحِ بَاكِرًا جِدًّا قَامَ وَخَرَجَ وَمَضَى إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ، وَكَانَ يُصَلِّي هُنَاكَ،} (مر ١: ٣٥). كما كان يدعو تلاميذه للخلوة والهدوء { فَقَالَ لَهُمْ: «تَعَالَوْا أَنْتُمْ مُنْفَرِدِينَ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ وَاسْتَرِيحُوا قَلِيلاً.} (مر ٦: ٣١).

وهكذا يدعونا نحن للهدوء والصلاة والتأمل { وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صَلَّيْتَ فَادْخُلْ إِلَى مِخْدَعِكَ وَأَغْلِقْ بَابَكَ، وَصَلِّ إِلَى أَبِيكَ الَّذِي فِي الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِي يَرَى فِي الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلاَنِيَةً.} (مت ٦: ٦). ويعلمنا الرب أن نبتعد عن الثرثرة والكلام الباطل { بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذلِكَ فَهُوَ مِنَ الشِّرِّيرِ. }(مت ٥: ٣٧). فلنحرص ان نكون هادئين { وَأَنْ تَحْرِصُوا عَلَى أَنْ تَكُونُوا هَادِئِينَ، وَتُمَارِسُوا أُمُورَكُمُ الْخَاصَّةَ، وَتَشْتَغِلُوا بِأَيْدِيكُمْ أَنْتُمْ كَمَا أَوْصَيْنَاكُمْ،} (١ تس ٤: ١١). وقدمت لنا القديسة مريم العذراء نموذج للهدوء والصمت المقدس { كَانَتْ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ مُتَفَكِّرَةً بِهَا فِي قَلْبِهَا}(لو ١٩:٢). الهدوء والصمت ليسا انسحاب من اداء رسالتنا بل هم شرط للرؤية الصحيحة والطاعة العميقة لله.

ثانيًا: فكر الآباء وتراث البرية

+ يقول القديس أنطونيوس الكبير: «اجعل خوفَ الله أمام عينيك كل حين… واحفظ لسانك من كثرة الكلام.» (رسائل أنطونيوس). ويرى القديس أن الصمت يحفظ الذهن بسيطًا ومصليًا.

+ القديس مقار الكبير: في العظات المنسوبة إليه يفرّق بين الصمت الخارجي ونقاوة القلب؛ فالهيسيكيا الحقيقيّة أن يصير القلب «كهيكل لله».

+ القديس الأنبا أرسانيوس: كان له قول مشهور عن الصمت «كَثِيرًا مَا تَكَلَّمْتُ فَنَدِمْتُ، أَمَّا عَلى الصَّمْتِ فَلَمْ أَنْدَمْ قَطّ.» وهو نموذج التزام الصمت ليتعلّم «فنّ السكون أمام الله». والأنبا بيمين (الشيخ) يقول : «اِسْكُتْ، وَاجْلِسْ فِي قَلْبِكَ، وَاذْكُرِ اللهَ دَائِمًا.» (أقوال الآباء).

+ القديس باخوميوس: وضع قوانين تُقلّل الكلام إلى الضروري، لئلّا «يَضِيعَ مِزَاجُ الصَّلَاةِ» في الدير.

+ القديس شنودة رئيس المتوحدين: شدّد على الانضباط وضبط اللسان، وربط بين «حراسة الفم» و«حراسة القلب» في عظاته وقوانينه.

+ والقديس يوحنا السُّلَّمي يعرّف الهيسيكيا بأنها «عبادةُ الربِّ بلا انقطاع وسجودُ العقل أمامه»، ويرى أن كثرة الكلام تشتت الذهن وتضعف مخافة الله. وكان الاباء يرددوا «صلاة يسوع» في القلب مع التنفس شهيق وزفير كانفاسهم (يا رب يسوع المسيح ابن الله الحي ارحمنى أنا الخاطئ) لتصبح نبضًا صامتًا يهدّئ الذهن ويجمع القلب. فالصمت ليس امتناعًا سلبيًا عن الكلام، بل حراسةٌ للحواس وجمعٌ للفكر ليثبت في ذكرى الله. هكذا عاش ابائنا القديسين حياة الصلاة والصمت والهدوء والتأمل. فالقديس الأنبا بيشوي: عُرف بكثرة الاختلاء، حتى صار «الرجل الكامل حبيب مخلصنا الصالح» لأن القلب الهادئ يصير موضعَ سكنى الله. والقديس بولا اول السواح والقديس أنطونيوس وحتى في لقائهما معا كان لقاء الصامتين في البرية شركة حبٍّ في الله. والقديس موسى القوي: تعلّم أن يزن الكلام بميزان التوبة، فصار صمته قوة تمييز وتعاطف. والقديسة مريم المصرية قضت سنوات الصمت في البرية حتى اقتنت قلبًا نقيًا وذاكرة إنجيلية حية.

والبابا كيرلس السادس (القرن 20): جعل لنفسه قانون صمت وصلاة يسند خدمته، فكان حضوره مغمورًا بسلام عجيب. ان حياتنا ورسالتنا تتوهّج أكثر حين تتجذّر في صمتٍ مصليّ.

ثالثاً:  ماذا يقول علم النفس؟

 الدراسات لا تتكلّم عن «الصمت الروحي» تحديدًا بل عن الهدوء، التأمل الذهني، وتقليل الضوضاء، والانتباه اليقظ؛ والنتائج عامة وقد تختلف بين الأشخاص. فالتعرّض المزمن للضوضاء يرتبط بارتفاع التوتّر القلبي الوعائي واضطراب النوم وزيادة الكورتيزول؛ لذا توصي تقارير صحية دولية بتخفيض مستويات الضجيج البيئي لحماية القلب والنوم.

+ ترميم الانتباه والإبداع: «نظرية ترميم الانتباه» (Kaplan) تفيد بأن التعرض لبيئات هادئة وطبيعية يُعيد شحن الانتباه المجهد، ما ينعكس على الصفاء الذهني والابتكار.

+ الدماغ ووضعية الشبكة الافتراضية (DMN): تصوير الدماغ يشير إلى أن ممارسات التأمل المُركز تقلّل من شرود الذهن ونشاط DMN المرتبط بالتشتت واجترار الأفكار، وتزيد وصلات مناطق التنظيم التنفيذي.

+ الصمت والاعصاب: أظهرت دراسة على القوارض أن فترات من الصمت اليومي ارتبطت بتبدّلات بنيوية في الحصين (منطقة الذاكرة)، ما يوحي بإمكان دور للهدوء في التعافي العصبي. الهدوء والصمت الواعي يوفّران بيئةً عصبية-نفسية تساعد على تنظيم الانفعال، واستعادة الانتباه، وتعميق الوعي الذاتي وهو ما يشهد له التراث الروحي منذ قرون.

رابعاً:  ثمرات الهدوء والصمت والتأمّل

* معرفة الله والذات: «بالهدوء والتفكّر» ينكشف عمق الدوافع وتُشفى النيات.

* تمييز الروحيات: يُصقَل السمع الداخلي لتمييز ما هو من الله وما هو من الذات.

* تطهير الكلام: يصير الكلام أقلّ وأصدق وأبني؛ «نِعْمَةٌ مَصْبُوبَةٌ عَلَى شَفَتَيْكَ».

* سلام العلاقات: يقلّ التسرّع وسوء الفهم، ويزداد الإصغاء والتعاطف.

* فعالية العمل: التركيز العميق يحتاج بيئات هادئة ومقاطع صمت.

* صحة نفسية أفضل: توتر أقلّ، نومٌ أفضل، ومرونة انفعالية أعلى.

خامساً: كيف نقتني حياة الهدوء والصمت والتأمل

أ. تهيئة المكان والإيقاع بخلق بيئة مناسبة وزاوية هدوء يومية بعيدا عن الضجيج ونوفر فيها كرسي مريح، شمعة أو صليب، إنجيل كإشارة حسية للذهن أن «هنا سكينة». وان أمكن بمواعيد كربع ساعة يوميًا كبداية (صباحًا/مساءً)، تزداد تدريجيًا. الثبات أهم من الطول. فيها «وضع طيران» للصلاة والتأمل العميق.

ب. ممارسة الصمت المصلي فنبدأ بالكتاب: قراءة فقرة قصيرة  من الإنجيل ثم ترديد صلاة يسوع (قصيرة، على النفس): عند الشهيق «يا رب يسوع المسيح»، عند الزفير «ارحمني أنا الخاطئ». 5–10 دقائق. مع حراسة الحواس بإغلاق العينين قليلًا، إرخاء الكتفين، ملاحظة الأفكار العابرة دون حوار معها والعودة للصلاة ونختم الخلوة بصلاة شكر لله 

ج. صمتٌ يثمر في العلاقات والعمل

قاعدة القديس يعقوب الرسول { إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ، }(يع ١: ١٩). (استمع سريعًا/تكلم ببطء/اغضب ببطء). درّب نفسك على فاصلة صامتة قبل الرد. اختلي بدون هواتف جرّب نصف ساعة او ساعة أن تغلق الموبيل وتحيا في هدوء وصمت وتأمل وصلاة مع يوم خلوة شهري مع إنجيل ومفكرة تكتب فيها ما هو ضرورى لحياتك وخلاصك ومستقبلك ولاحظ مدى نموك وعلاماته من زيادة اللطف، وضوح الفكر، قلّة التسرّع، الفرح الهادئ. أن الهدوء التأملي والهيسيكيا ليست ترفًا للنساك، بل عمل كل إنسان روحى وطريقٌ للراحة والبعد عن الضجيج إلى الإصغاء لصوت الله داخل النفس والبعد عن التشتّت إلى المحبة الفاعلة. وكلما اذداد صمتنا لله، اتّسع قلبنا للعالم.

القمص أفرايم الأنبا بيشوى

مراجع 

الكتاب المقدّس

التراث القبطي والآبائي

* بستان الرهبان 

* القديس أنطونيوس الكبير، رسائله

* القديس مقاريوس الكبير، عظات روحية.

* قوانين القديس باخوميوس.

* القديس شنودة رئيس المتوحدين، العظات والقوانين.

* يوحنا السلّمي، سُلَّم الفضائل (الدرجات)، فصل «الهيسيكيا».

* Ware, Kallistos. The Orthodox Way (فصول الصلاة واليقظة).

* The Philokalia (مختارات عن اليقظة والصلاة القلبية).

علم النفس والأعصاب

* Goyal, M. et al. (2014). Meditation Programs for Psychological Stress and Well-being. JAMA Internal Medicine.

* Kaplan, S. (1995). The Restorative Benefits of Nature: Toward an Integrative Framework. Journal of Environmental Psychology.

* Brewer, J. A. et al. (2011). Meditation experience is associated with differences in default mode network activity and connectivity. PNAS.

ليست هناك تعليقات: