اللطف وأهميته - ٥٠
في عالم يموج بالعنف، والكراهية، والحروب، يظهر اللطف كقيمة روحية وإنسانية عميقة تعبّر عن حضور الله في الإنسان. اللطف ليس مجرد مجاملة أو طيبة سطحية، بل هو تعبير عن قلب ممتلئ بالحب الإلهي، يفيض سلامًا ورحمة على الآخرين، فكيف نتحلي باللطف في عالم قاسٍ مملوء بالصراعات.
أولًا: مفهوم اللطف في الكتاب المقدس
+ اللطف " Kindness" في العهد القديم بكلمة "חֶסֶד – حِسِد" العبرية، التي تعني الرحمة، والنعمة، والإحسان. الله هو مصدر اللطف { وَتَجْعَلُ لِي تُرْسَ خَلاَصِكَ، وَلُطْفُكَ يُعَظِّمُنِي. تُوَسِّعُ خَطَوَاتِي تَحْتِي، فَلَمْ تَتَقَلْقَلْ كَعْبَايَ. }(٢صم ٢٢: ٣٦، ٣٧). الله يصنع معنا اللطف والأحسان ويعطينا نعمة في عيون الغير كما كان مع يوسف وبسط اليه لطفاً { وَلكِنَّ الرَّبَّ كَانَ مَعَ يُوسُفَ، وَبَسَطَ إِلَيْهِ لُطْفًا، وَجَعَلَ نِعْمَةً لَهُ فِي عَيْنَيْ رَئِيسِ بَيْتِ السِّجْنِ. }(تك ٣٩: ٢١). وكما تعامل الله بلطف ورحمة مع يوسف، راينا يوسف يعامل اخوته باللطف حتى بعد أن باعوه عبد {فَقَالَ لَهُمْ يُوسُفُ: «لاَ تَخَافُوا. لأَنَّهُ هَلْ أَنَا مَكَانَ اللهِ؟ أَنْتُمْ قَصَدْتُمْ لِي شَرًّا، أَمَّا اللهُ فَقَصَدَ بِهِ خَيْرًا، لِكَيْ يَفْعَلَ كَمَا الْيَوْمَ، لِيُحْيِيَ شَعْبًا كَثِيرًا. فَالآنَ لاَ تَخَافُوا. أَنَا أَعُولُكُمْ وَأَوْلاَدَكُمْ». فَعَزَّاهُمْ وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ.} (تك ٥٠: ١٩-٢١). اللطف الإلهي هو علاقة عهدٍ بين الله وشعبه، يتجلى في غفرانه، وحنوه، وإحسانه الدائم نحو الخطاة. فاللطف والرحمة هو جزء من السلوك الإيماني الحق.
+ وفي العهد الجديد يستخدم الكلمة اليونانية "χρηστότης – خريستوتيس"، وتعني اللطف أو الصلاح الرقيق. وهو ثمرة من ثمار الروح القدس:
«وأما ثمر الروح فهو محبة، فرح، سلام، طول أناة، لطف، صلاح...» (غل ٢٢:٥). السيد المسيح نفسه هو المثال الأسمى للطف { لاَ يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ. قَصَبَةً مَرْضُوضَةً لاَ يَقْصِفُ، وَفَتِيلَةً مُدَخِّنَةً لاَ يُطْفِئُ، حَتَّى يُخْرِجَ الْحَقَّ إِلَى النُّصْرَةِ. وَعَلَى اسْمِهِ يَكُونُ رَجَاءُ الأُمَمِ} (مت ١٢: ١٩-٢١). الله يعاملنا باللطف حسب كثرة رحمته { وَلكِنْ حِينَ ظَهَرَ لُطْفُ مُخَلِّصِنَا اللهِ وَإِحْسَانُهُ - لاَ بِأَعْمَال فِي بِرّ عَمِلْنَاهَا نَحْنُ، بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ - خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ}(تي ٣: ٤، ٥). لذلك علينا ان نتسلح باحشاء رافة ولطف واحتمال لنسامح بعضنا البعض { فَالْبَسُوا كَمُخْتَارِي اللهِ الْقِدِّيسِينَ الْمَحْبُوبِينَ أَحْشَاءَ رَأْفَاتٍ، وَلُطْفًا، وَتَوَاضُعًا، وَوَدَاعَةً، وَطُولَ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَمُسَامِحِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا إِنْ كَانَ لأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ شَكْوَى. كَمَا غَفَرَ لَكُمُ الْمَسِيحُ هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا. }(كو ٣: ١٢، ١٣). اللطف في المسيحية إذًا هو قوة هادئة، تُظهر محبة الله في التعامل مع الآخرين دون قسوة أو عنف.
ثانيًا: اللطف في فكر وأقوال الآباء
+ يقول القديس اثناسيوس الرسولي أنه المسيح " أظهر قوة لإهوته في لطفه أكثر مما أظهرها في معجزاته". ويرى القديس مكاريوس الكبير أن اللطف ثمرة من ثمار الروح القدس في الإنسان " إن النفس المملؤة من الروح القدس تصير لطيفة ووديعة حتى نحو الأعداء لان الروح القدس يبدّل العنف الداخلى الي سلام". وهكذا تعامل الأنبا مكاريوس مع كاهن الوثن باللطف عندما قابله وحياه قائلا " تصحبك القوة يا رجل النشاط!" وعندما سأله عن إيمانه باللطف تعامل معه وجذبه للمسيح هو ومن معه.
+ يقول القديس يوحنا الذهبي الفم "اللطف هو تاج المحبة، وهو الذي يجعل القاسي وديعًا، والغاضب هادئًا، والبعيد قريبًا." ويقول يوحنا الذهبي الفم أن اللطف ليس ضعفًا، بل هو قوة روحية نابعة من القلب المتواضع الممتلئ من النعمة. فاللطف الإلهي لا يعني التهاون، بل يحمل في طياته قدرة على احتواء الآخر وجذبه نحو التوبة.
+ ويقول القديس يوحنا السلمي أن اللطف ليس مجاملة بشرية بل توزان روحى بين الحزم والرحمة "اللطف هو حبّ بلا تملّق، ورحمة بلا كبرياء، وهدوء بلا تراخٍ."
ثالثًا: اللطف في علم النفس
+ التحليل النفسي والبعد الإنساني.. يرى كارل روجرز أن اللطف هو أحد مظاهر "التقبل غير المشروط"، أي استقبال الآخر كما هو دون حكم أو نقد. بينما يرى إبراهام ماسلو أن الإنسان الذي بلغ قمة النمو الذاتي يتميز بالرحمة واللطف العميقين.
+ وأثبت علم النفس الإيجابي في الدراسات الحديثة أن اللطف يزيد إفراز هرمونات السعادة مثل السيروتونين والدوبامين، ويقلل من التوتر والاكتئاب. وقد أشار مارتن سليجمان إلى أن ممارسة أعمال اللطف اليومية (acts of kindness) ترفع الشعور بالرضا النفسي وتدعم العلاقات الاجتماعية.
+ اللطف في علم العلاج المعرفي السلوكي يستخدم كقوة علاجية وأداة لإعادة بناء العلاقات ولخفض الغضب والعدوانية. فالتعامل اللطيف يُعيد التوازن النفسي ويكسر دوائر الكراهية والعنف.
رابعًا: كيف يتحلى الإنسان باللطف وسط عالم العنف والحروب؟
+ الاتحاد بالمسيح مصدر اللطف
اللطف لا يُكتسب بجهد بشري فقط، بل هو ثمرة الاتحاد بالمسيح من خلال الصلاة والأسرار. وعندما يسكن المسيح في القلب، يفيض الإنسان بلطف طبيعي.
١- التأمل في حياة المسيح
المسيح تعامل بلطف حتى مع مضطهديه، حتى في اصعب اللحظات وهو علي الصليب قال { يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ.}(لو ٢٣: ٣٤) . فالتأمل في هذا المسيح المصلوب من أجل خطايانا وذنوبنا يغيّر النفس وهكذا راينا استفانوس الشهيد الأول يتعلم من سيده المغفرة حتى لراجميه { فَكَانُوا يَرْجُمُونَ اسْتِفَانُوسَ وَهُوَ يَدْعُو وَيَقُولُ: «أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ اقْبَلْ رُوحِي». ثُمَّ جَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَصَرَخَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ: «يَارَبُّ، لاَ تُقِمْ لَهُمْ هذِهِ الْخَطِيَّةَ». وَإِذْ قَالَ هذَا رَقَدَ.} (أع ٧: ٥٩، ٦٠)
٢- ضبط اللسان والغضب
كما قال القديس يعقوب: { إِذًا يَا إِخْوَتِي الأَحِبَّاءَ، لِيَكُنْ كُلُّ إِنْسَانٍ مُسْرِعًا فِي الاسْتِمَاعِ، مُبْطِئًا فِي التَّكَلُّمِ، مُبْطِئًا فِي الْغَضَبِ، لأَنَّ غَضَبَ الإِنْسَانِ لاَ يَصْنَعُ بِرَّ اللهِ.} (يع ١: ١٩، ٢٠). اللطف يظهر أولًا في الكلام اللين ثم في أعمال الرحمة.
٣- ممارسة أعمال الرحمة
في بيئة مليئة بالحروب والفقر، يكون اللطف العملي من مساعدة المحتاجين، دعم الضعفاء، مواساة الحزاني .. الخ وذلك كتعبير صادق عن الإيمان.
٤- التربية على اللطف
علم النفس التربوي يؤكد أن الأطفال الذين يعيشون في بيئة يسودها اللطف يصبحون أكثر سلامًا واستقرارًا نفسيًا من غيرهم.
خامسًا: ثمار اللطف في الحياة الروحية والاجتماعية
* سلام داخلي: الإنسان اللطيف يعيش بضمير مستريح وبعلاقة متصالحة مع الله والناس.
* علاقات ناجحة: اللطف يجذب الآخرين ويصنع الثقة.
* قدرة على الغفران: اللطيف يغلب الشر بالخير كما أوصى الرسول بولس (رو٢١:١٢).
* تحول المجتمع: اللطف الفردي يخلق ثقافة رحمة وسلام تعالج جذور العنف.
باللطف يعاملنا الله الرحوم وعلينا أن نتعلم منه. فاللطف والرحمة أعظم علاج العنف والقسوة وحين يتحول اللطف من مجرد سلوك إلى حالة روحية دائمة، يصير الإنسان أداة سلام في يد الله. فاللطف ليس ضعفًا، بل قوة نابعة من محبة الله لنا ومحبتنا نحن لغيرنا وتشبه بالله الرحوم الذي نؤمن به.
القمص أفرايم الأنبا بيشوي
المراجع
* الكتاب المقدس – العهدين القديم والجديد.
* القديس يوحنا الذهبي الفم، العظة على المحبة والوداعة.
* القديس أثناسيوس الرسولي، تجسد الكلمة.
* القديس يوحنا السلمي، سلم الفضائل.
* القديس مقاريوس الكبير، العظات الروحية.
* Carl Rogers, On Becoming a Person, 1961.
* Abraham Maslow, Motivation and Personality, 1954.
* Martin Seligman, Authentic Happiness, 2002.
* Pope Shenouda III, Life of Humility and Meekness, 1989.
* Mother Teresa, No Greater Love, 1997.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق