+ الأبوة الروحية وإنجاب أبناء لله
+ يعلمنا القديس بولس أن التنشئة المسيحية وتسليم وديعة الإيمان ليس مسألة نقل معلومات وعقائد وحسب، بل هو إنجاب أبناء روحيين للحياة في المسيح وتنميتهم فى الإيمان ليحل المسيح بالإيمان فى قلوبهم ويعيشوا كما يحق لإنجيل المسيح. ويعبر رسول الأمم عن هذا الأمر في مواضع عديدة. في رسالته إلى أهل غلاطية، يقول: { يا أولادي الذين أتمخض بكم ايضا الى ان يتصور المسيح فيكم }(غل 4 : 19) نرى في هذه الآية كيف أن بولس يشبه تبشير الغلاطيين بمخاض المرأة الحبلى التي تلد الي أن يتصور المسيح في البنين. إن غيرة بولس لولادة أبناء للحياة مع المسيح تشبه مخاض المرأة التي تلد البنين وتربيهم وتنميهم. وكما إن الإنسان الجسدي لا يستطيع أن يقبل الحياة دون والدين، كذلك لا يقبل المؤمن كلمة الله وتعاليم الحياة الروحية بدون أب روحي مُؤسس ومُتجذر في إنجيل ربنا يسوع المسيح. المسيحي مدعو لقبول الحياة الروحية مِمَن يملك إعطائها، والذي بدوره ينقلها لِمَن يأتي بعده. ولنأخذ مثلا وقدوة من بولس الرسول الذي عَلمَ تيموثاوس الذي تلقى من بولس كل التعليم وثبت في الإيمان بالمسيح، وقادة الروح القدس ذاته الذي استقى منه القديس بولس وظل أبنا وأخا فى الرب لمن أتي به للإيمان.
+ أن تغيير حياة الإنسان وقبوله الإيمان بالمسيح كمن يقبل بذرة الحياة الأبدية في نفسه وروحه ويتعهدها بالنمو المتواصل بواسطة الإنجيل. وكما حدث مع القديس بولس الرسول نفسه أذ يقول { فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ } (غل 20:2). يرصد الرسول بولس نمو جنين الحياة الأبدية فينا بالتغيير المستمر من مجد إلى مجد { نحن جميعاً ناظرين مجد الرب بوجهٍ مكشوفٍ كما في مرآةٍ نتغير إلى تلك الصورة عينها، من مجدٍ إلى مجدٍ، كما من الرب الروح} (2كو 18:3).
+ وبلوغ المسيح فينا ملء قامته فيصوِّره بولس الرسول في أمر المعمودية بأننا نحن الذين اعتمدنا للمسيح موتاً وقيامة، نكون قد لبسنا المسيح بالحق (غل 27:3). بمعنى أن الإنسان العتيق فَقَدَ وجوده وسطوته الفعلية ليستعلن الإنسان الجديد فينا الذي هو المسيح القائم من بين الأموات بمجد الآب، الذي به أُعطي لنا أن ندخل إلى الآب ونتراءى أمامه كأولاد قديسين وبلا لوم في المحبة { ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم }(أف 17:3). فغاية الرسول في طلبه لأجل المؤمنين بأن يتأيَّدوا بقوة الروح القدس في الإنسان الباطن هي لكي يحل المسيح بالإيمان في قلوبهم. فمتى امتلك الروح القدس حياة المسيحي الحقيقي فإنه يملأ قلبه وعواطفه وأفكاره وكل كيانه بالمسيح يسوع ونرى ما في المسيح من كمالات وأمجاد. ونكتشف كيف أن مسيحنا "أبرع جمالاً من بنى البشر"، وأن "حلقه حلاوة وكله مشتهيات" وكما قال السيد المسيح عن الروح القدس { ذاكَ يُمَجِّدنِي، لأَنَّه يَأْخذ مِمَّا لِي وَيُخبِركم. كل مَا لِلآب هو لِي. لِهَذا قلت إِنهُ يَأْخذ مِما لِي وَيخْبِركم} (يو14:16، 15).
المحبة الأبوية والنمو في الإيمان..
+ يشبه القديس بولس الرسول الأب الروحي كأم حنون محبة ومُرضعة، تربي وتنمي وتعطي ابناءها لا الإنجيل فقط بل تبذل ذاتها أيضا من أجلهم { كنَّا مترفقين في وسطكم كما تربِّي المُرضِعَةُ أولادَها، هكذا إذ كنَّا حانِّين إليكم، كنَّا نرضَى أن نعطيكم، لا إنجيل الله فقط بل أنفسنا أيضاً، لأنكم صرتُم محبوبين إلينا. فإنكم تذكرون أيها الإخوة تعبنا وكدَّنا }(1تس 2: 7-9). القديس بولس يُحسب إذاً، لا متمخضاً بهم وحسب بل ومولِّداً ومرضعاً ومربياً معاً. أن الإنسان الروحي لا يولد في لحظة ولا يتغيَّر مرَّة واحدة، ولكن ينمو ويتجدد يوما فيوم { لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدَّد يوماً فيوماً. } (2 كو 16:4). فلا يتسلل اليأس إلى حياتنا، لأنه حتى وان كان الخارج يكبر ويشيخ وتضعف حواسه ويفنى خاصة خلال الآلام والتجارب، لكن النفس في الداخل التي لا يراها أحد تتجدد طبيعتها، وتتقبل النور الإلهي والحياة الجديدة، فتتمتع بالحياة المقدسة المطوِّبة وتتجدد يومًا فيومًا.
+ يبدأ تجديد المؤمن وولادته في جرن المعمودية المقدس، ويتقدم تدريجيًا ويتم بأكثر سرعة في بعض الأفراد وأكثر بطئًا في آخرين. لكن كثيرين يتقدمون نحو الحياة الجديدة، إن لاحظنا الأمر بأكثر دقة وبدون تحيّزٍ. وكما يقول الرسول وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يومًا فيومًا إنه يقول إن الإنسان الداخلي يتجدد يومًا فيومًا حتى يصير كاملاً، لكن يلزمنا أن نجاهد للسير في طريق النمو والكمال { اَلَّذِي عِنْدَهُ وَصَايَايَ وَيَحْفَظُهَا فَهُوَ الَّذِي يُحِبُّنِي، وَالَّذِي يُحِبُّنِي يُحِبُّهُ أَبِي، وَأَنَا أُحِبُّهُ، وَأُظْهِرُ لَهُ ذَاتِي».... إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كَلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً.}(يو 14: 21-23).
التمثل بإيمان الآباء القديسين ..
+ علينا كأبناء الرسل القديسين والمرشدين الأتقياء أن نسير علي خطى الآباء وننظر الى نهاية سيرتهم الطيبة ونتمثل بإيمانهم ونذكر باخلاص فضلهم و نطيعهم في الرب ونصلي من أجلهم و نطلب صلواتهم كما يقول القديس بولس الرسول {اذكروا مرشديكم الذين كلموكم بكلمة الله انظروا الى نهاية سيرتهم فتمثلوا بايمانهم } (عب 13 :7) . في رسالة القديس بولس إلى أهل كورنثوس يقول { أَكْتُبُ بِهَذَا بَلْ كَأَوْلاَدِي الأَحِبَّاءِ أُنْذِرُكُمْ. لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ لَكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيلِ. فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَنْ تَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِي.} ( 1كو 14:4-16). القديس بولس يكتب كأبٍ لا للتوبيخ أو لإبراز الأخطاء بل من خلال أحشائه الأبوية يطلب بنيان المؤمنين. يشتهي إصلاحهم وتقديسهم ويميز الرسول بين المعلمين والمرشدين والأباء الروحيين، نحن محتاجون إلي معلمين يرشدوننا ويدربوننا علي الحق، لكنهم لا يبلغوا أحشاء الأب الذي يولدهم في الإنجيل للبنوة للَّه. القديس بولس وضع الأساس إذ أسس الكنائس وآخرون قاموا بالبناء عليه وكأن القديس بولس يطلب إلى المؤمنين أن يدخلوا إلي أحشائه ليجدوا فيها دفء الحب الفائق في المسيح يسوع. إذ قبلوا الإيمان بالمسيح علي يديه ومن خلال كرازته. لقد وضع الأساس الإنجيلي ويأتي من بعده من يكمل البناء فيكون هو كمن ولدهم والآخرون يرشدونهم. كما يقول عن تلميذه الحبيب تيموثاوس { تيموثاوس إبني الحبيب والأمين في الرب} (1 كو 4- 17). وبالاسلوب نفسه يفتتح القديس بولس رسالة الثانية الي تيموثاوس { بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ، لأَجْلِ وَعْدِ الْحَيَاةِ الَّتِي فِي يَسُوعَ الْمَسِيحِ. إِلَى تِيمُوثَاوُسَ الاِبْنِ الْحَبِيبِ. نِعْمَةٌ وَرَحْمَةٌ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ الآبِ وَالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا.} (2 تيم 1:1-2).
الأبناء الروحيين ونفعهم للآباء..
أن كان الأب الروحي يبذل ذاته لفائدة وراحة أولاده الروحيين ويسر بنموهم ونجاحهم فعلى الآباء أن يسهروا لراحة ابائهم وطاعتهم في الرب فيكون نموا الأبناء ونجاحهم مصدر فرح لابائهم { الابن الحكيم يسر أباه والرجل الجاهل يحتقر امه} (أم 15 : 20). وفي رسالة القديس بولس إلى فيلمون، يطلب فيها من فيلمون أن يرأف بعبده أنسيمس الذي كان قد هرب في ما مضى من سيده ثم تقابل مع القديس بولس وآمن بواسطته ورده القديس بولس لتلميذه فليمون قائلا أنه صار نافع لبولس ولفليمون { أَطْلُبُ إِلَيْكَ لأَجْلِ ابْنِي أُنِسِيمُسَ، الَّذِي وَلَدْتُهُ فِي قُيُودِي، الَّذِي كَانَ قَبْلاً غَيْرَ نَافِعٍ لَكَ، وَلَكِنَّهُ الآنَ نَافِعٌ لَكَ وَلِي، الَّذِي رَدَدْتُهُ. فَاقْبَلْهُ، الَّذِي هُوَ أَحْشَائِي} (فل 10:1-12). وينصح القديس بولس الابناء الروحيين بالطاعة لمن يسهروا لأجل خلاص نفوسهم لكي يخدموا بفرح من أجل منفعة الاباء والأبناء { أَطِيعُوا مُرْشِدِيكُمْ وَاخْضَعُوا، لأَنَّهُمْ يَسْهَرُونَ لأَجْلِ نُفُوسِكُمْ كَأَنَّهُمْ سَوْفَ يُعْطُونَ حِسَاباً، لِكَيْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِفَرَحٍ، لاَ آنِّينَ، لأَنَّ هَذَا غَيْرُ نَافِعٍ لَكُمْ} (عب 13 : 17). القوة الدافعة الأبوة الروحية هي الرغبة في نقل الخبرة والعلاقة الشخصية للأب الروحي المختبر والذي ذاق محبة الله وما تسلمه وتعلمه وعاشه في علاقته مع الله للآخرين، وأن يكون الآب إنجيل مقروء أمام أعين تلاميذه. ويتطلب هذا معركة روحية لكي لا يحيد الأب الروحي عن الهدف الذي وضعه لنفسه أن يكون إنجيلاً مقرؤاً للآخرين. ويؤكد بولس بهذا المبدأ الأساسي للأبوة الروحية وهي معاناة الأب الروحي وتوجعه لأجل أن يُصور المسيح في حياة تلاميذه ليأتي اليوم الذي ينمو فيه الابن الروحي ويوُلد من رحم المعاناة بعد أن يتشكل فيه صورة يسوع المسيح ليقود السيد المسيح الجميع إلى عمق الحياة الروحية ليفرح الغارس والحاصد معاً ويأخذ كل أحد أجرته حسب تعبه.
يظهر لنا من خلال حياة وتعاليم القديس بولس الرسول كيف يكثر من تعابير الأبوة والأمومة في حديثه الأمر الذى يبين كيف أنه لا يعتبر البشارة والتنشئة المسيحية تهدف إلى الدعوة للإيمان المسيحي و الكرازة بإنجيل الخلاص فقط بل عملية إنجاب يلد فيها الرسول المؤمنين في حياة الإيمان. هذه الولادة لا تحتل مكان أبوة الله بل هي ثمرة الإيمان، بحيث يصير من يلد الأبناء في الرب كأب روحي لهم يقول القديس بولس { أجثو على ركبتي للآب الذي منه تستمد كل أبوة اسمها في السماء والأرض} (أف 3- 15). الرسول ليس أبًا بفضل ذاته، بل بفضل أبوة الله الآب الذي منه تستمد أبوته في المسيح اسمها وجوهرها وحيويتها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق